ندوة في الرباط تدعو إلى تجديد ومراجعة مناهج الفقه الإسلامي في مؤسسات التعليم العالي

البعض رأى أنها تعاني من ركود ومزاحمة وإقصاء

مراجعة منهاج تدريس الفقه لا يجب ان تتم في مؤسسات التعليم العالي فقط، بل في كافة مراحل التعليم («الشرق الأوسط»)
TT

تحظى مادة الفقه الإسلامي في التعليم والبحث الجامعيين في الدول الإسلامية بأهمية خاصة نظرا لارتباطها بالحياة اليومية للمسلمين، ولكن تثار الكثير من النقاشات حول تحديات وقصور في مناهج وطرق تدريسها في العديد من المؤسسات التعليمية في العالم الإسلامي، وهذا ما حاولت أعمال ندوة «منهج تدريس الفقه الإسلامي في مؤسسات التعليم العالي» مناقشته في يوم دراسي شارك فيه ثلة من العلماء والباحثين عقد أخيرا في مقر دار الحديث الحسنية بالرباط.

انطلقت مداخلات الندوة من أن الفقه الإسلامي اليوم يواجه تحديات لكون القواعد والأحكام التي تنظم قوانين المجتمع بغيره في الوقت الراهن لم تستنبط في جزء كبير منها من الفقه الإسلامي أصالة. ومن الطبيعي أن تصبح الدراسات الفقهية في ظل هذا الواقع محاصرة بتحديين: تحدي التجدد الذاتي، وتحدي إيجاد صيغة لتجاوز الإطار المرجعي والمصدر التشريعي للأحكام في مجتمع مسلم.

الدكتور سعيد بلبشير، الباحث في شؤون الفقه الإسلامي، والوزير المغربي الأسبق قال إننا نعيش منذ نصف قرن على الأقل في تحولات قانونية هائلة في جميع مناحي الحياة، في حين نجد كتب الفقه الإسلامي تركت كما هي من دون تجديد، حيث ظن البعض خطأ أن العديد من أمور الحياة ليست هي من صميم الدين، وأن الشرع ليس من الضروري أن يدلو بدلوه، حيث يلاحظ غياب الكثير من المفاهيم في كتب الفقه في مؤسسات التعليم العالي من القيم الإنسانية، وكأن دراسة مفاهيم كالحريات العامة والحقوق الأساسية ليست من مبادئ الإسلام.

وهذا خطأ كبير، كما يقول الباحث، وهو ما يحدث جفوة وثغرة عند التحاور مع الغير، فنبدو كأننا بعيدون عن اللغة السائدة في العالم اليوم وهي لغة الحريات والمبادئ العامة الإنسانية، كما أن بعض الفقهاء المعاصرين يلجأون إلى التفسير الجزئي من دون أن يقدموا وحدة بناء متكاملة لتفسير مواضيع الحياة، في حين أن القرآن الكريم والسنة النبوية، يقدمان منظومة متكاملة اجتماعيا واقتصاديا وأخلاقيا وإنسانيا، وبالتالي يجب أن نعطي للدارسين للفقه في مؤسسات التعليم العالي متسعا من الوقت للفهم والتعمق في مجال الفقه الإسلامي وفتح الأبواب أمام الدارسين للوصول إلى ما ينبغي فهمه.

من جانبه طرح، عباس الجراري، مستشار العاهل المغربي، وعضو أكاديمية المملكة المغربية، مجموعة من الأسئلة حول دراسة الفقه في مؤسسات التعليم العالي: هل المطلوب فقط دراسة الفقه باعتباره أحكاما شرعية تمس العبادات والمعاملات فحسب، أم هو فقه متسع وشامل للعقائد والسلوك والمعاملات وكل ما يمس مناحي الحياة البشرية؟ وهل تقتصر دراسة الفقه في إطار مذهب معين كالمذهب المالكي كما كان الشأن في العصر الأول للإسلام، أم كافة المذاهب الأربعة؟ وكمحاولة منه للرد على هذه الأسئلة، يقول الجراري: إن دراسة الفقه يجب قبل كل شيء أن تنطلق من منظور ورؤية واضحين، فقد كانت الدراسات القديمة تعتمد على استظهار متون وأمثلة معينة، وظلت هي المسيطرة على مجال الدرس الفقهي. وأضاف: لا يجب اليوم أن نظل مرتبطين بهذه الأمثلة، وحين نتحدث عن الفقه والفكر الإسلامي ونطالب بمراجعته وتجديده، يجب ان نكون حذرين، ليس طعنا فيما قام به العلماء السابقون والتنكر له، بل نشيد بما قاموا به، لأنهم حافظوا عليه من المضايقات والظروف القاهرة التي كانت تحيط بالأمة الإسلامية آنذاك، بالإضافة إلى خشيتهم من فوضى الإفتاء والاجتهاد من غير أهل العلم والفكر. ولكن اليوم ليس مقبولا في مؤسسات التعليم العالي أن نظل مرتبطين بمقررات ومتون معينة نرددها فقط، بل للبحث في أدلتها وكيف وصلت إلينا.

ونبه الجراري إلى أن مراجعة منهاج تدريس الفقه لا يجب ان تتم في مؤسسات التعليم العالي فقط، بل في كافة مراحل التعليم، حتى لا يلتحق طلاب بمؤسسات تعليمية عليا وهم غير مؤهلين لدراسة أعمق في الفقه أو يجهلون أبسط قواعده. ويرى الباحث مع ذلك أن الأمل معقود على مؤسسات التعليم العالي في العالم الإسلامي لتصحيح مسارها لتحقق رسالة الفقه النبيلة.

ومن جهته قال الباحث محمد جميل مبارك، رئيس مسالك الشريعة والقانون بكلية الشريعة بمدينة أكادير، أن هناك خللا في مناهج تدريس الفقه في مؤسسات التعليم العالي في المغرب يحتاج إلى تقويم وإصلاح، لوجود مناهج هامشية تحول دون التعمق في أصول الفقه، فتضيع جهود الأستاذ والطالب من دون طائل، ويظل الدارس في سباق مع الزمن ليكمل منهجا طويلا في فترة زمنية وجيزة، فيضيع معها الهدف السامي في تدريس مادة عميقة ومفيدة هي الفقه، بالإضافة إلى غياب التطبيق في أغلب الدراسات.

وخلصت الندوة إلى أن كثيرا من الأصول التي أنبنى عليها الفقه الإسلامي تحتاج إلى مراجعة عميقة، فالمتغيرات العميقة التي عرفتها المجتمعات البشرية وفترة الركود غير القصيرة التي عاشها الفقه الإسلامي، تستدعي جهدا علميا طويل المدى في مراجعة نقدية للتراث الأصولي، أي ان المشكلة لا تكمن فقط في وجود مصادر أخرى للتشريع في المجتمعات الإسلامية، بل أيضا في تأهيل الفقه الإسلامي ليقود الحياة من جديد. وهذا التأهيل ينطلق من تجديد النظر في المصادر والقواعد والمقاصد باعتبار التراث الأصولي، برغم كل ما فيه من إبداع ودقة، إنتاجا بشريا يعاني كغيره من مجالات التراث الإسلامي من آفات الركود والتقليد.