التجول بكاميرات الفيديو والهاتف الجوال داخل الحرم المكي.. بين التأييد والمعارضة

البعض يصر عليها كتوثيق لذكرى جميلة وآخرون يعتبرونها تقطع الخشوع

توثيق اللحظات الجميلة بجوار المشاعر المقدسة يصر البعض عليها كتوثيق لذكرى جميلة فيما يعترض آخرون بدعوى قطع الخشوع («الشرق الأوسط»)
TT

البعض يصر عليها كتوثيق لذكرى عاطرة، والبعض الآخر يعترض، لكن لا يختلف أحد على أنها لحظة استثنائية بكل المقاييس.. ففي ساحة الكعبة المشرفة وبعد صلاة الفجر مباشرة، اندفع شيخ ناحية أحد الشباب الذي وقف يلتقط بتليفونه الجوال لقطة للكعبة، وصرخ الشيخ: «ما في تصوير.. ما في تصوير.. هنا مكان للعبادة لا للتصوير.. من يريد التصوير يذهب إلى خارج الكعبة». تدخل البعض لتهدئته وبعد أن استعاد الرجل هدوءه بدأ ينصح الشباب الذين تجمعوا حوله، مبينا لهم عدم جواز ذلك، وعدم اعتبار البيت الحرام مكانا لالتقاط الصور التذكارية، بينما في النواحي المختلفة من الساحة الواسعة كان لا يزال بعض المعتمرين يقفون قبالة الكعبة وهم يحملون تليفوناتهم الجوالة والكاميرات لاقتناص صور للذكرى في أطهر بقعة على وجه الأرض، خاصة في لحظة تاريخية ترتبط بالتوسعة الضخمة للمسجد الحرام وساحاته الخارجية.

فمن داخل الكعبة وخارجها يتبارى المعتمرون في التقاط الصور لأعمال التوسعة في الصفا والمروة وكذلك أعمال التشييد والبناء في الساحات الخارجية التي تستمر طيلة اليوم والليلة، في مشاهد تحمل انعكاسا لعصر جديد من التطور التكنولوجي والأداء الراقي والوعي الكامل بأهمية هذا العمل واحتياج المسلمين له في ظل تزايد أعداد الحجاج والمعتمرين الذين تهوي أفئدتهم من كل فج عميق نحو المشاعر المقدسة تلبية لنداء الخليل إبراهيم عليه السلام. وفي السنوات الأخيرة لم يعد رؤية رجل يحمل كاميرا فيديو أو كاميرا ديجيتال في ساحة الكعبة أو في الصفا والمروة محل السعي في العمرة والحج منظرا استثنائيا كما كان في الماضي. لقد تعدى الأمر على ما يبدو حدود الظاهرة، وبات عالم الاتصال المتسارع بأدواته التي بهرت ولا تزال العقل البشري يفرض هيمنته على سلوك المجتمع العربي وغير العربي في الزمان وفي المكان. وفي الكعبة زادها الله تعظيما وتشريفا بدت هناك لقطات فريدة وجديدة يلمحها الحاج والمعتمر بسهولة، كان من شبه المستحيل رؤيتها في السابق. فقبل الطواف مثلا يمكن رؤية شباب من جنسيات مختلفة يلبسون ملابس الإحرام ويتجمعون أمام الكعبة لالتقاط صورة تذكارية بجوال أو كاميرا أحدهم.. أما النساء فلدى بعضهن أيضا الرغبة في تسجيل هذه اللحظات الجميلة والنادرة. هذا المشهد نفسه يتبدل إيقاعه في ردهات الفندق، حيث يثور الجدل بين بعض المعتمرين حول مدى شرعية التقاط الصور في الأماكن المقدسة، ففي حين رأى البعض عدم جوازها في ساحة الكعبة كونها موضعا للعبادة، وقصر ذلك على أعمال التوسعة، كون الانشغال بالتصوير في ساحة الكعبة يتسبب في انشغال المعتمر أو الحاج عن مهمته الأساسية في العبادة، فضلا عن إخراجه من قدسية اللحظة وعظمة المكان. لكن هناك البعض الآخر الذي يرى أن زيارة الأماكن المقدسة فرصة نادرة لالتقاط الصور التذكارية، لأنه ليس أروع من صورة في ملابس الإحرام أمام الكعبة، أو في المسعى.

أحمد غزالي (مغربي) يعتبر أن التصوير في الأماكن المقدسة بالنسبة له تسجيل لحياته وتوثيق لهذه الرحلة الفريدة، خاصة أن مكة تشهد هذه الأيام التوسعة الكبيرة. ومن ثم تتضاعف ضرورة التوثيق حتى يرى الأبناء والأحفاد مكة وما كانت عليه في توسعة الملك الراحل فهد بن عبد العزيز، وما ستصبح عليه في توسعة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز. ويضيف غزالي الذي يحمل كاميرا فيديو أينما ذهب: إن الاعتراض على التصوير لا محل له من الإعراب خاصة في عصر التكنولوجيا الرقمية والأحداث العالمية المتتالية التي تتطلب التوثيق والتسجيل، رافضا مسألة تأثير القيام بهذه المهمة خروجا عن قدسية المكان وتميزه. واعترف غزالي بأن التوسعة قد أخذت حيزا كبيرا من وقته نظرا لضخامتها وتنوعها وامتدادها إلى أماكن كثيرة وأهميتها في وقت كانت الأماكن المقدسة تضيق بزوارها الأمر الذي يكسبها أهمية إضافية فضلا عن إيقاع العمل السريع والتميز المعماري والذوق الفني الرفيع الذي ينبغي تسجيله (مع الاعتذار للمعترضين). ويرى علاء المليجي (مصري) أن العالم تغير وهناك تطور ينبغي الأخذ به، وما كان في الماضي غير مقبول يمكن التعاطي معه اليوم على نحو مختلف، معتبرا أنه لا ينبغي الخوف من التعامل مع وسائل العصر الحديث بهذه الطريقة طالما أن الثوابت لم تمس، بينما الثقافة طوال الوقت تتغير بتغير العصور. ويضيف المليجي: إن التقاط الصور التذكارية في ساحة الكعبة مسألة محمودة كونها تذكر المرء بعبادة ومناسك أدائها، ومن ثم قد تصبح رادعا له عن ارتكاب المحرمات أو التقاعس عن الطاعات بعد عودته إلى حياته الطبيعية. ويبين المليجي أن مجرد نقل شعائر الصلاة من الكعبة المشرفة أو نقل شعائر الحج، هو في حد ذاته عمل يرفع الهمة ويزيد الإيمان واليقين، وقياسا على ذلك يمكن النظر إلى مسألة التقاط الصور التذكارية.

أما عادل مصطفى (كويتي) فيرى أن الاهتمام بالتصوير عبر الجوال والكاميرات أمر يقتل الخشوع لدى المعتمر والحاج ويصرفه إلى أشياء أخرى غير مهمة، معتبرا أن اهتمامنا بوسائل الاتصالات الجديدة لم يخرج عن حيز الدهشة والفرح الطفولي والاستخدام السلبي والتظاهر. ويرى مصطفى أن الكعبة المشرفة ليست أثرا أو مشهدا طبيعيا مثل أهرامات الجيزة أو شلالات نياغرا حتى يتسابق البعض إلى التقاط الصور بجوارها، بل تظل رمزا للعبادة الحقة وصحة الانقياد لأمر الله، ومن ثم لا يجب التعامل معها على هذا النحو «السياحي». ويطالب مصطفى القائمين على شؤون المسجد الحرام بوضع إرشادات باللغات المختلفة تبين عدم جواز الانشغال بمثل هذه الأعمال، وذلك للحد من هذا الوضع المتزايد الذي ستصعب السيطرة عليه مستقبلا، على حد قوله.

ويقول إبراهيم بشير من السودان، إن انتشار التصوير وآلياته وأدواته هو جزء من ثقافة عالمية، اقترنت بثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، مضيفا: «لا اعتقد أن فن التصوير، قد يؤثر بالسلب على المشاعر المقدسة. بل على العكس تماما، ربما تسببت صورة لي أو بضع دقائق تسجل صورتي إلى جانب الحرم المكي، في هداية صديق من الأصدقاء في السودان». ويؤكد البشير أن عائلته على وجه الخصوص من ذلك النوع من البشر الذين ترفرف أرواحهم إلى الأماكن المقدسة عند نقل أي بث مباشر من مكة المكرمة أو المدينة المنورة. ولا يعتقد البشير أن أيا منهم سيجرؤ على تفويت الفرصة لتوثيق أوقاتهم في هذه البقاع المقدسة؟!».

ويبتسم بشير وهو يقول: «نحتفظ في عائلتنا بنوعين من المعارض العائلية: معرض للصور الثابتة، ومعرض أكثر تطورا يضم التسجيلات المتحركة بالصوت والصورة، التي يلتقطها أفراد العائلة بكاميرا الفيديو أو عبر كاميرا الهاتف الجوال. وفي المعرضين يمكنك أن تلاحظ مكانة الصور التي يجري التقاطها في الأراضي الحجازية». بشير الذي تخطى الأربعينات من عمره، يبدو أكثر حماسة لممارسة التصوير في الحرم المكي، ويؤكد ذلك بشيء من الاندفاع حين يقول: «لو كان بوسعي نقل أدائي المشاعر المقدسة على الهواء مباشرة عبر الأقمار الصناعية إلى أهلي في السودان، لفعلت ذلك.. لماذا تتجاهلون أن ذلك يزيد الإنسان شرفا ومكانة، أمام ربه وأهله وعشيرته في ذات الوقت؟!».. لم أملك إلا ابتسامة عفوية تومئ بموافقتي على رأيه، وكعادته لم يمنع نفسه من توثيقها عبر هاتفه الجوال.