دعوة خادم الحرمين الشريفين للحوار.. نموذج فريد

المؤتمر العالمي للحوار.. آمال وتطلعات تعايش وتسامح

TT

يعتبر الحوار في أدبيات الديانات مفهوما حضاريا وتلاقحا فكريا للتقارب نصت عليه الاسناد والكتب المقدسة في الديانات السماوية. وبالقاء نظرات في القرن الواحد والعشرين على تجمعات ومجتمعات الاقطاب العالمية نجد ان التركيبة التكونية فيها بين النامية كمجتمعات ودويلات عربية وإسلامية ومجتمعات محافظة، ولكنها غير انغلاقية، فالأرضية لهذه التكوينات البشرية وخصوصا النخب الدينية والسياسية كالعلماء والمفكرين والمثقفين تقبل الحوار ويؤثر في مسالكها واخلاقيات تعاملاتها وقراراتها ويفعل دورها، ويجعل ثمة قواسم مشتركة بينها في عدة مجالات فكرية وأمنية واجتماعية وسياسية. واذا القينا نظرات استقرائية على الوثيقة النبوية المعروفة عند فقهاء السياسة الشرعية بدستور المدينة ندرك ان ثقافة الحوار وبناء التسامح والعيش السلمي خير نموذج قدمه رئيس الدولة الاسلامية الأولى ومؤسس أنظمة الحكم والدولة وفقه العلاقات الدولية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كون التسامح جاء قائما على التوصيف لأحكام الشريعة الاسلامية، فجميع الاحكام وفقه التعامل مع الغير الاصل فيه اليسر والسهولة والاعتدال لا التشدد والتضييق والترصد «وما جعل عليكم في الدين من حرج».

وقد دونت قواعد العلاقات الدولية الاسلامية التي اشار اليها الفقيه الامام محمد بن الحسن الشيباني (189هـ) في موسوعته القيمة «السير الكبير» نماذج من منهجية التسامح مع الغير وقواعدها التي تقوم على احسان معاملة الآخر، واقامة العدل مع اهل الديانات، وتتويج ذلك بالصفح عن الزلات والهفوات قصد الهداية والقرب «لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم». وقد أدرك بعض اعداء الاسلام المكانة المرموقة للتسامح عند المسلمين، فهذا المستشرق جون لوك يبين في كتابه رسالة في التسامح ان ثمة اضطهاداً بين المذاهب والاديان الاخرى سيطر طوال العصور الوسطى، سواء من جانب البابوية أو من جانب الحكام الاباطرة، الى ان جاء منتصف القرن الخامس عشر، حيث بدأت بوادر نشر وتمهيد لثقافة التسامح وبدء حقيقة التسامح، لكن على خوف واستحياء ثم رفع صوته عندما دعا الى التسامح الديني الصريح بعد قراءات جديدة وعكوف على دراسة حقيقة الاديان خصوصا الدين الاسلامي، « قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ».

وفي القرن الواحد والعشرين وفي ظل المتغيرات والزحف العولمي وهيجان الماديات وارتفاع أسعار النفط وغمرة الروحانيات وكثرة الالحاد والتطاول على مقامات الانبياء جاءت الدعوة إلى مؤتمر عالمي للحوار من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى الحوار بين اتباع الاديان والثقافات بعد ان مهد لذلك في جولات عالمية التقى خلالها مع اقطاب وكرادلة أهل الديانات وحاضرة الفاتيكان وحبرها. وطاف ملك الانسانية بالعالم يحمل مشاعل هدى الاسلام وروح التسامح والحوار الذي أسس منظومة العلاقات منذ أربعة عشر قرناً بين أهل الديانات، فهدف الملك كقائد عربي مسلم وسائس يرعى المقدسات ويقوم بخدمتها إلى إزالة العداء والاحتقان اللذين تعيشانه المجتمعات الانسانية في عالم تتفجر فيه عيون الحقد والعداء والتربص لبعضها بعضا، الأمر الذي أدى إلى استنبات طوائف وملل تقدم صورة سيئة عن الديانات والانبياء صلوات الله وسلامه عليهم، سواء كانوا من المسلمين أو اليهود أو المسيحيين.

جاءت دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز لعقد المؤتمر العالمي لحوار الديانات والحضارات وان تكون فاتحة انطلاقة أرض الاندلس اسبانيا مملكة الاندلس، وانعقاده يجري مراعاة لروح الذاكرة الدينية والسياسية، حيث عاشت تجربة التساكن والعيش والاندماج بين المسلمين في حضارة وتراث ظل على مدى سبعة قرون. وبغض النظر عن الآراء المختلفة حول جدوى حوارات الاديان والحضارات، فإن الأمر المؤكد والفكر المبيت في ذهن الملك عبد الله هو تلك الحملات العنادية والضاربة جذورها على الاسلام والمسلمين واتهام الدين الاسلامي بالارهاب والعنف والتعصب والتطرف وعدم التسامح والتطاول على رموز الشريعة المحمدية، فالدعوة جاءت في وقتها المناسب ورد حضاري إنساني ومائدة للتفاهم والنقاش، وأنه من خلال الدعوة لعقد هذا المؤتمر الكبير ودلالاته فإنه يمكننا ابراز المحطات الآتية:

أولاً: أهمية الدعوة الملكية من ملك يرعى المقدسات وتسمى بخادم الحرمين الشريفين، وكونها تبرمج عقلا جديدا وتفتحا استناريا اعتداليا حضاريا بلغة حوارية جديدة في ظل منعطفات خطيرة وبالغة الحساسية كصراع الحضارات ونظرياته المفترضة، وصدامات العالم العربي الاسلامي والغربي المسيحي واليهودي. لقد جاءت الطاولة الحوارية وهي تجمع أقطابا من علماء الديانات السماوية تحد من المد الخطير والهلاك المدمر.

ثانياً: تحمل الدعوة الاخلاص والمناصحة والقاء الظلمة والعتامة إلى الوراء وتقديم النص المقدس «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم.

ثالثاً: الفهم الحضاري للشريعة وملتقيات الديانات في قواسم مشتركة واحياء ذلك والالتزام به وبلورة منهجية متتالية تتولد عنها التفاعلات في الخطابات الدينية والثقافية والسياسية والفتووية.

رابعاً: احترام الديانات وعدم الاساءة إلى رموزها من الانبياء والمرسلين وعلى رأسهم خاتم الأنبياء والرسل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

خامساً: المبادرة نحو الانفتاح على الديانات والثقافات الاخرى التي دعا إليها الملك عبد الله هي دفع لعجلة الاندماج السياسي المتعمقة فيه اخلاقيات الديانات وأرضية الانسجام لخدمة الانسانية وشعوب أهل الأرض.

سادساً: تميز المبادرة في ابراز الجوانب الوضاءة لفقه العلاقات الدولية وتأكيد على الاعتزاز والثقة الحوارية الحضارية في دين الاسلام كونه ديناً يدعو الى المعايشة والتساكن والسلم والسلام.

سابعاً: حوار الأديان وفي قلب ملتقى الديانات عامل يقوي ويعضد ويدعم التآلف الاسلامي المسيحي اليهودي لتعزيز وتقوية أية مبادرات في صالح الأمم والشعوب.

ثامناً: ستكون الثمار لهذا الحدث العالمي المدوي فتح آفاق لدراسة وفهم وحل الصراع الفكري والعدائي بين الغرب والاسلام.

تاسعاً: تتولد من هذه الدعوة بناء الجسور الدينية والثقافية ودراسات نوازل العالم من منظور فقه الديانات والعلاقات الانسانية.

عاشراً: نتمنى انشاء مركز لحوار الديانات في المملكة العربية السعودية منوط بلجنة من كبار العلماء والمفكرين من أقطاب العالم الاسلامي وتكوين رأي عام لنصرة قضايا الأمم والشعوب وازالة الظلم عن المظلومين في العالم.

وفق الله المليك لكل عمل فيه خير للأمة فهو تاج ملوك الاسلام حفظه الله.

* أستاذ السياسة الشرعية والأنظمة في قسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز في جدة