خذوا على أيدي المبذرين

TT

المبذرون هم إخوان الشياطين؛ لأنهم يتجاوزون الحدود الشرعية والقواعد المرعية في نفقاتهم وتصرفاتهم. وعندنا في المجتمع أناس يلعبون بالمال لعب الأطفال بالطين؛ لأنه وصل إليهم بسهولة، فصرفوه بسهولة فتجدهم ينفقون على ملاذهم وشهواتهم وموائدهم واستراحاتهم وأسفارهم الملايين المملينة، وجيرانهم شريحة هائلة من الفقراء المعوزين الذين يقفون على أبواب المساجد والطرقات يسألون الأغنياء ولا مجيب، ألا يستيقظ ضمير المبذر وهو يرى نفسه مثخناً بجراح المترفين ومرض المتكبرين وداء المتجبرين؟ ويظن هؤلاء أنه على قدر إنفاقهم وكثرة صرفهم سوف يحصلون على الاستقرار النفسي والحياة الطيبة ولكن هيهات، فالسعادة ليست شيكاً يُصرف ولا رصيداً يُنمّى ولا ثروة تُزاد إنما السعادة فوق هذا كله، إنها إيمان ورضا وسكينة وقناعة، وأمن داخلي وسلام مع النفس ومع الناس. فيا صاحب الموائد المستطيلة ويا صاحب حفلات البذخ والإسراف أفِق من غفوتك وتذكر أنك مسؤول عن هذا المال أمام الله ثم أمام ضميرك وورثتك والناس. فلا تبالغ في السّفه والحمق إلى درجةٍ تلغي فيها مطالب الروح على حساب الجسد. فيا من يربي بدنه ويسمّن جسمه على حساب عقله وقلبه! إن كنت تفاخر بقوة جسمك فالبغل أقوى منك، وإن كنت تفاخر بضخامة أعضائك فالثور أضخم منك أعضاءً، وإن فاخرت بعدْوك فالغزال أسرع منك بل ليس هناك باب من أبواب المفاخرة بالجسم إلا وتجد أن حيواناً يفوقك في هذا الباب فأقْبِل على الروح واستكمل فضائل النفس، قال أبو الطيب: لَولا العُقولُ لَكانَ أَدنى ضَيغَمٍ أَدنى إِلى شَرَفٍ مِنَ الإِنسانِ وغالب شبابنا تكبر بطونهم وتضمر عقولهم لأنهم أقبلوا على الوجبات الدسمة بنهم وأغفلوا قوت القلوب من العلم والمعرفة، فتمدد الجسم على حساب العقل، فتجد أحدهم سميناً بطيناً ثخيناً وتجد عقله سخيفاً خفيفاً رهيفاً. وإنما شرّف الله عباده بعقولهم وإيمانهم ومعرفتهم وفهمهم لا بأجسادهم، حتى قال عن أعدائه المردة الأغبياء: «وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ». وقد هجا حسان بن ثابت زعيم المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول وكان ضخماً سميناً لكنه فاشل حقير فقال: لا عَيبَ بِالقَومِ مِن طولٍ وَلا عِظَمٍ جُسمُ البِغالِ وَأَحلامُ العَصافير أيها المبذرون كفى استهتاراً بالمال واستهانة بالنعم وتعالوا إلى الترشيد في النفقة وإحياء سنة المواساة الاجتماعية وأشركوا في موائدكم الفقراء والأيتام والمحرومين، قال تعالى: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا». وعلى كل منعّم مسمّن أن يطمئن أن هذه الجثة الضخمة التي يحملها سوف يُحفر لها قبر في الأرض وتُدسّ ويُحثى عليها التراب، وتُجرّد من الثياب، ويتخلى عنها الأصحاب، ويفارقها الأحباب.

أيها المترفون! بطون الجائعين أولى من صناديق القمامة، وأجساد العراة أحق من كسوة الجدران والحيطان، وبناء بيوت للمساكين أفضل من شاليهات البذخ والإسراف، ويوم كنت أجمع مادة كتاب (لا تحزن) عثرت على كلمة لأحد أساطين الغرب تساوي مليون دولار، يقول: «كلما ترفّه الجسم تعقّدت الروح». ومقصوده انك كلما بذلت وأنفقت في التنعم واللذة والمتعة دفعت ضريبة ذلك من استقرار نفسك وسعادة روحك واطمئنان قلبك، فتعيش قلقاً مكدّراً مهموماً، وانظر إلى حياة البسطاء أصحاب القناعة كيف يغردون بالأناشيد كأنهم الطيور بينما يتناول كثير من المترفين العقاقير المسكنة، ويشكون من الأرق والقلق.

فاقتصدوا أيها المترفون رويداً رويداً، فقد سبقكم أباطرة وأكاسرة وقياصرة وجبابرة لعبوا بالذهب والفضة كما يلعب الأطفال بالتراب، ثم صاروا في خبر كان: «هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا»، حتى استهزأ بهم الشاعر الكبير المتنبي بعدما سُحبوا من القصور إلى القبور فقال: أَينَ الأَكاسِرَةُ الجَبابِرَةُ الأُلى كَنَزوا الكُنوزَ فَما بَقينَ وَلا بَقوا مِن كُلِّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بِجَيشِهِ حَتّى ثَوى فَحَواهُ لَحدٌ ضَيِّقُ خُرسٌ إِذا نودوا كَأَنْ لَم يَعلَموا أَنَّ الكَلامَ لَهُم حَلالٌ مُطلَقُ