شرعية «الحسابات الفلكية» في السعودية: جدل متجدد.. لا يزال قائما

كبار العلماء لم يتوصلوا إلى قرار حول ربط شهادة الشهود بـ«المراصد»

ما زال الخلاف مستمرا حول اعتماد الحساب الفلكي في تحديد دخول الشهور الهجرية («الشرق الأوسط»)
TT

حتى يوم أمس الاثنين، لم يتوصل كبار العلماء في السعودية، إلى تفاهم حول اعتماد الحسابات الفلكية كعنصر مساعد لتقريب الإجراء الشرعي لرؤية الهلال، وهو ما يعكس مدى حساسية هذا الملف بالنسبة لمعارضي هذا التوجه، بالرغم من أن مجموعة كبيرة من علماء اللجنة الدائمة للإفتاء الذين درسوا الموضوع بناء على توجيه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، أقروا بملاءمة اعتماده.

وأحيطت النقاشات التي دارت بين أعضاء هيئة كبار العلماء، منذ يوم السبت الماضي، بسرية كاملة. ورفض عدد من أعضاء الهيئة الذين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» الإدلاء بأية تفاصيل حول النقاشات التي تمت خلال الأيام الماضية.

وعلمت «الشرق الأوسط»، من مصادر خاصة، أن هيئة كبار العلماء في السعودية، لم تتوصل حتى يوم أمس، إلى قرار بشأن اعتماد موضوع الحسابات الفلكية، وهو ما سيبقي على الجدل السنوي في هذا الصدد قائما هذا العام أيضا، في الوقت الذي يقترب فيه حلول شهر رمضان المبارك.

وفي حال لم تتوصل هيئة كبار العلماء في السعودية هذا الأسبوع إلى قرار بشأن اعتماد الحسابات الفلكية في عملية ترائي هلال شهر رمضان، سيعود الجدل ليصاحب دخول هذا الشهر، على اعتبار أن دعوة مجلس القضاء الأعلى لعموم المسلمين لترائي الهلال، ستأتي في وقت تجزم الحسابات الفلكية باستحالة رؤيته فيه، كما أكد ذلك الشيخ عبد الله بن منيع أحد أعضاء هيئة كبار العلماء الداعمين لضرورة الأخذ بعلوم الفلك.

وبحسب معلومات حصلت عليها «الشرق الأوسط» فإن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وجه بعد موسم الحج الماضي مباشرة، كلا من وزير العدل ورئيس مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، بضرورة الاجتماع للخروج بالصيغة الصحيحة التي تحقق رؤية الهلال في وقته المناسب عبر الاستعانة بالمراصد الفلكية. وأشارت المعلومات ذاتها، إن الشيخ عبد المحسن العبيكان المستشار القضائي بوزارة العدل، هو من تقدم باقتراح للملك عبد الله، بهذا الخصوص.

وعلى اثر ذلك الأمر، شكلت لجنة شرعية برئاسة الشيخ أحمد سير مباركي عضو اللجنة الدائمة للإفتاء وعضو كبار العلماء، بعضوية 4 علماء آخرين، كي يبحثوا موضوع اعتماد الحسابات الفلكية في ترائي هلال الأشهر الحرم، ويبعثوا بالنتائج إلى هيئة كبار العلماء.

وأبلغ «الشرق الأوسط» الشيخ عبد المحسن العبيكان عضو مجلس الشورى السعودي، أن اللجنة التي تم تشكيلها، أيدت الرأي المطالب به، والذي ينص على «ألا تقبل شهادة الشهود منفردين عن المراصد الفلكية».

ومنذ يوم السبت الماضي، أخضعت هيئة كبار العلماء في السعودية، تقرير اللجنة التي أيدت فيه ضرورة اعتماد الحسابات الفلكية لتقريب الإجراء الشرعي في إثبات دخول أشهر السنة، وبالأخص المرتبطة بالمواسم الدينية. لكنها حتى الآن، لم تعط أية تفاصيل حول ما توصلت إليه من نقاشات، وسط معلومات شبه مؤكدة تشير إلى أنها لم تتوصل إلى قرار نهائي بعد.

غير أن الشيخ العبيكان، أبدى توقعه بأن تقوم هيئة كبار العلماء بتأييد ما توصلت إليه اللجنة، معيدا إلى الذاكرة القرار الذي صدر بالإجماع من هيئة كبار العلماء حيث كان وقتها الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ عبد الله بن حميد والشيخ محمد بن أمين الشنقيطي أعضاء فيه، والتي رأت فيه اعتماد المراصد في الرؤية. وأضاف العبيكان أن المشكلة تنحصر في الشهود الذين يتراؤون الهلال بعيدا عن المراصد الفلكية. وقال «لا أفهم لماذا يريد البعض أن يعيدنا إلى الماضي، وأن يبقينا معتمدين على من يمتلكون أعيناً كعيني زرقاء اليمامة».

ولا يرى الشيخ عبد الله بن منيع، عضو هيئة كبار العلماء، مانعا شرعيا، من الاستفادة من الحسابات الفلكية. وقال إن «الأخذ بالنتائج الفلكية لا يتعارض مع النصوص الشرعية من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم».

ودأب بن منيع، منذ ما يزيد على العامين، على إعداد بيانات تتعلق بذكر أوائل الشهور القمرية؛ وهي: «رجب، شعبان، رمضان، شوال، ذي الحجة، ومحرم»، وذلك لتقريب الإجراء الشرعي لإثبات دخول شهر رمضان المبارك وخروجه ولمعرفة يوم عرفة ويوم عيد الأضحى ولمعرفة يوم عاشوراء من شهر محرم. وذكر أن ما شجعه على مواصلة إعداد هذه البيانات أنها «أعطت التأني في الإثبات والحد من التسرع في ذلك»، مشيرا إلى إن الجهة المختصة لا تزال في موقف المتردد في قبول المعارف الفلكية، وهو الأمر الذي «كان له أثره في الارتباك في الإثبات والإخراج أمام العالم الواعي خارج بلادنا وداخلها»، على حد تعبيره.

وأبدى الشيخ بن منيع، أمله في أن يتغير وضع إثبات دخول أشهر السنة في بلاده، مدفوعا بموقف خادم الحرمين الشريفين الذي وصفه بـ«الإيجابي» ضد المواقف الأخرى المترددة والمتشككة في علم يعتبر من أهم العلوم الكونية ـ علم الفلك ـ ومن أهم وسائل الإثبات في دخول كل شهر وخروجه».

ودعَم الشيخ بن منيع، بيانه السنوي، بـ8 مسائل، شرح من خلالها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي يستند عليها المعارضون لمسألة الأخذ بالحسابات الفلكية، ورد في ذلك على من يقولون أن الأخذ بالعلوم الفلكية يتعارض مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا..» إلى آخره.

وأكد بن منيع، أنه لا يجوز في الوقت الحالي الاعتماد في الأمور الشرعية على الأسباب التقليدية الظنية في النتائج، مع وجود الوسائل التي تفضي إلى نتائج قطعية، نظرا لتغير أحوال المسلمين من جهل إلى علم، ووجود الكثير منهم من ذوي الاختصاصات العلمية في الطب والهندسة والفلك والفيزياء والأحياء وعلوم الذرة والطاقة وغيرها من علوم التقنية.

وشرح عضو هيئة كبار العلماء، حديث الرسول «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»، بأن المقصود فيه «رؤية الهلال بعد غروب الشمس»، مؤكدا وجوب تمسك المسلمين بذلك والعض عليه بالنواجذ وترك ما يخالفه. وذكر أن الإخبار برؤية الهلال «شهادة يشترط لقبولها مجموعة شروط، من أهمها أن تكون الشهادة منفكة عما يكذبها فإذا كان علم الفلك يقرر أن الهلال قد غرب قبل الشمس من مكان ادعاء الرؤية فكيف تصح من الشاهد شهادته بالرؤية؟ حيث ان شهادته تعني رؤيته الهلال بعد غروب الشمس وعلم الفلك يقرر قراراً قطعياً أن الهلال قد غاب قبل الشمس بزمن».

وأشار إلى أن رد شهادة الشخص الذي شهد برؤية الهلال في وقت تجزم الحسابات الفلكية أنه غرب قبل غروب الشمس، هو ليس رد لقول الرسول صلى الله عليه وسلم «صوموا لرؤيته»، وإنما رد لشهادة باطلة ارتبطت بما يكذبها.

وأوضح بن منيع وجود 4 حالات، من الممكن تحققها في حال الجمع بين التقيد بقول الرسول والأخذ بالحساب الفلكي، منها أن «تغرب الشمس قبل الهلال، ويرى الهلال بعد غروب الشمس»، وهذه الحال يثبت فيها دخول الشهر بالاعتبارين الشرعي والفلكي، بحسب منيع.

أما الحالة الثانية، والتي أوردها بن منيع في تقريره السنوي المفصل، فتتمثل بأن «تغرب الشمس بعد غروب الهلال ولم يتقدم أحد بدعوى الشهادة برؤية الهلال بعد غروب الشمس»، وهذه الحال اتفق النظر الشرعي مع الواقع الفلكي على «نفي الرؤية» واعتبار هذه الليلة ليلة آخر يوم من الشهر الحالي.

وتلزم الحالة الثالثة، والتي تغرب الشمس فيها قبل غروب القمر، ولم يتقدم أحد بدعوى رؤية الهلال، وهو ما يعني اختلاف الواقع الفلكي مع الحكم الشرعي، حيث إن الواقع الفلكي يثبت دخول الشهر، والحكم الشرعي ينفي دخوله، تلزم الأخذ بالنظر الشرعي في نفي دخول الشهر استجابة للنصوص الشرعية «لانحصار الإثبات الشرعي في الرؤية فقط بعد الولادة».

ولكن في الحالة الرابعة، والتي يغرب القمر فيها قبل غروب الشمس، ويأتي من يشهد برؤية الهلال بعد غروب الشمس، في حين أن الواقع الفلكي ينفي دخول الشهر، ففي هذه الحال «يجب الأخذ بالواقع الفلكي حيث ان الهلال لم يولد إلا بعد غروب الشمس فكيف يرى بعد غروبها والحال أن الشمس غربت قبل ولادته؟». وهذا معنى القول بأنه «يجب الأخذ بالحساب الفلكي فيما يتعلق بالنفي دون الإثبات»، كما قال بن منيع.

ويستند معارضو الأخذ بالحسابات الفلكية، على أن علماء الفلك مختلفون فيما بينهم بتحديد وقت دخول الشهر باليوم. لكن بن منيع يرفض هذا الاستدلال، مؤكدا أن الاختلاف بين الفلكيين يقع في تحديد أول يوم من الشهر لا في تحديد ولادة الهلال ولا اقترانه بالشمس فهذان الأمران محل إجماع بين علماء الفلك قاطبة مسلمهم وغير مسلمهم والاختلاف اختلاف في الاصطلاح.

وأمام ذلك، يؤكد لـ«الشرق الأوسط» الدكتور زكي المصطفى رئيس قسم علوم الفلك في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، أن جميع الحسابات الفلكية الصادرة من جهات علمية متوافقة مع الحسابات التي تخلص إليها المدينة، حيث أن «جميعها تعتمد على طرق حسابية متطابقة أو متماثلة. ويتفق الجميع في حالة حساب وقت الولادة (الاقتران) ومواعيد الشروق والغروب».

وأشار الدكتور المصطفى، أن «الحسابات التي تقدمها مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية تعتمد على طرق حسابية عالية الدقة، وهي نفس الحسابات التي تستخدمها المراكز الفكية في جميع أنحاء العالم لرصد الأحداث الفلكية المختلفة مثل الخسوف والكسوف»، مؤكدا أن الحسابات الفلكية في العصر الراهن قد وصلت إلى دقة عالية جداً.

وهناك نسبة من العلماء الشرعيين الذي يعارضون حتى الأخذ بالحسابات الفلكية في حال النفي، حيث يستندون بأن الهلال قد يولد بعد غروب الشمس ومع ذلك يرى. ويرد بن منيع على هذه المسألة بأن هذه الحالة «تقع في السنة مرة في أحد شهورها». ويوضح حقيقة الأمر بأن هذه الرؤية «ليست رؤية حقيقية وإنما هي رؤية سرابية وهي رؤية عاكسة صورة القمر خلف الشمس كعكس المرآة لمن هو خلفها والحال ان صورته فيها أمامه».

وبالرغم من أن الحسابات الفلكية التي أعلن عنها في السعودية خلال العامين الماضيين، وجزمت باستحالة رؤية الهلال لغروبه قبل الشمس، إلا أن المحاكم الشرعية تلقت شهادات تفيد الرؤية، وهو ما يستند عليه المعارضون أيضا في تقوية موقفهم. إلا أن الشيخ عبد الله بن منيع، رد على ذلك، باحتمالية أن يكون الشاهد قد رأى نجما أو كوكبا قريبا من الشمس، فظن أن هلالا، واستند إلى ما حدث في عهد قضاء الشيخ علي بن عيسى ـ رحمه الله ـ في الوشم، حيث تقدم إليه رجلان بالشهادة برؤية هلال شوال، وحينما ناقشهما، رد شهادتهما، على حد قول بن منيع، والذي لم يلغ احتمالية كذب الشهود، وهو ما عده من أبعد الاحتمالات، على الرغم من احتمالية وقوعه.

واستحسن بن منيع اقتراح إيجاد مرصد أو أكثر وحصر الرؤية الشرعية في المراصد ورفض أي رؤية بصرية إذا لم تكن بواسطة المرصد، وهو ما يؤيده الشيخ عبد المحسن العبيكان، حيث قال المنيع إن هذا الاقتراح وسيلة قوية في التحري والتحقيق والتدقيق.

وفي رأي للدكتور زكي المصطفى أحد أبرز علماء الفلك في السعودية، يقول إن الوسيلة الشرعية المعتبرة لإثبات دخول الشهر في رمضان والحج، هي الرؤية الشرعية البصرية، ولفت إلى أنه يبقى الحديث بعد ذلك عن الأمور المتعلقة بهذه الوسيلة «والتي من شأنها الوصول بها لأعلى درجات الصحة والاطمئنان»، مؤكدا أن الرأي العلمي يأتي داعماً للحكم الشرعي الذي يستند على رؤية الهلال بالعين المجردة.

وشدد عضو هيئة كبار العلماء بن منيع، على ضرورة التنسيق بين الجهة الشرعية المختصة بإثبات الهلال، ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، متمنيا عقد ندوة بين علماء الفلك السعوديين، وبين مجموعة من رجال العلم؛ ومنهم رئيس وأعضاء المجلس الأعلى للقضاء، ورئيس وأعضاء اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء لبحث مسائل الهلال، الاقتران، الولادة، إمكان الرؤية، وذلك لتقريب وجهات النظر المتباعدة في ذلك وتضييق دائرة الخلاف في الإثبات.

ويرى الشيخ صالح اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى في السعودية، ضرورة بقاء بلاده على الرؤية الشرعية في إثبات دخول الأشهر الحرم.

وقال في بيان له، أصدره بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك العام الماضي، «أن المملكة ولله الحمد باقية على ما كانت عليه ولم تتغير بإرجاف المرجفين أو تخرصات المتخرصين، عندهم أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم وعندهم نهيه صلى الله عليه وسلم، فقد أمر المسلمين بأن يصوموا إذا رأوا هلال رمضان وأمرهم بأن يفطروا إذا رأوا هلال شوال ونهاهم أن يصوموا إلا باكمال الرؤية أو برؤية الهلال ونهاهم إذا صاموا أن يفطروا إلا برؤية الهلال أو إكمال ثلاثين يوما». وذكر اللحيدان في بيانه أن «النبي صلى الله عليه وسلم قال نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب»، ويقصد بذلك أن هذه الأمة الإسلامية في ما فرضه الله عليهم من عبادات لا تتقيد بحساب ولا كتاب يكتب وإنما تتقيد بأمور جعلها الله جل وعلا دليلاً على دخول وقت العبادات وعلى انتهائها وذلك لا يحتاج إلى تجمع آراء ويحتاج إلى الثقة والأمانة وتقوى الله جل وعلا ولهذا الحساب لا يشترطون في الحسابين أن يكونوا أتقياء صلحاء متمسكين بدين الله ينظرون الى أمر الحساب.. والرؤية تحتاج إلى الثقة والأمانة والقدرة على ترائي ما يتراءى».

وفي الوقت الذي كانت تجزم فيه الحسابات الفلكية باستحالة رؤية هلال شهر شوال، قال الشيخ اللحيدان «من فضل الله جل وعلا وعظيم منته، أن رؤية هلال شوال في هذه الليلة، لم تقتصر على مكان معين واحد أو اثنين أو ثلاثة، ولم يكن العدد من اثنين أو ثلاثة أو خمسة بل العدد وصل إلى العشرة، أو قد يكون البعض لم يصلنا لأنهم اكتفوا بمن بلغهم انه رأى، فالرؤية في عدة أماكن في المملكة في الوسط وفي الشرق ولم يأت شيء من الأطراف الشمالية لانه لما علم انه رؤي من علم أن رؤية الهلال تمت بواسطة من يثبت بهم الحكم أنكف عن القول وألا تراءى هذا العدد ورؤيتهم للهلال يدل على أن رؤيته في أماكن متعددة أمر متيسر والحمد لله على ما من به علينا.. ورغبتي ورجائي من الذين يتدخلون في الحساب أن يخضعوا الحساب لما قال الله جل وعلا أو قاله رسوله صلى الله عليه وسلم لا أن يقولوا نحن نقول بالرؤية ولكن إذا أقر الحسابون انه لا يرى ردينا من شهد بذلك لان هذا قول لا يؤيد آخره أوله».