الخلافة الإسلامية في غرفة بلندن

د. عائض القرني

TT

حدثني أحد الدعاة المشهورين أنه سمع خطيباً في لندن يخطب خطبة الجمعة في غرفة ضيقة معه مجموعة من الأشخاص وهو يدعو لإقامة الخلافة الإسلامية، قال الداعية: فأخذت أضحك من المشهد، والحقيقة أنه مشهد مضحك مبكٍ، فشخص قليل العلم غريب عن أهله ومجتمعه في غرفة بالأجرة وعاجز هو وإخوانه عن بناء جامع وهو يحمل إقامة مؤقتة قام ينادي بإقامة الخلافة الإسلامية التي عجزت عن إقامتها دول ومنظمات وجماعات إسلامية، وما أدري ما هو هذا الحمق الذي تلبّس لهذا الخطيب حتى أنساه نفسه وواقعه وخرج من العالم المشهود إلى عالم الرؤى والأحلام، والواجب عليه أولاً أن يطلب العلم حتى يدعو إلى الله على بصيرة ثم يتكلم فيما ينفع الناس من دعوة إلى الإيمان بالله والخلق النبيل والحكمة والموعظة الحسنة، وقبل أن يدعو إلى إقامة الخلافة عليه أن يؤمّن أجرة الغرفة التي يخطب فيها مِن دخْل حلال، وعليه أن يصلح وضعه القانوني في البلد الذي يقيم فيه أو فرّ إليه من القمع أو هرب إليه من الفقر أو شرد إليه من الجوع، ثم بعد ذلك ينبغي عليه أن يحسّن صورة الإسلام المشوهة عند الكثير من غير المسلمين وهذا التحسين يكون بالكلمة الطيبة والخلق الجميل والبسمة الموحية والتصرف السليم والنهج الحكيم.

فالخلافة الإسلامية ليست ورقة مزايدة ولا سلعة مرابحة، فالمسلمون قبل الخلافة وبعدها مأمورون بتوحيد الله واتباع رسوله (صلى الله عليه وسلم) والتآلف والتآخي والرحمة بالناس والرفق بالبشر وإصلاح النفس والمجتمع، وسوف نعبد الله وندعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة قبل الخلافة وقبل المهدي المنتظر، أما إحالة الناس إلى المجهول وإدخالهم في نفق مظلم لا يعلمون نهايته فهذا شأن المهرجين والمحرجين والمروجين، ألا تعجبون من شاب سافر إلى بريطانيا يطلب اللجوء السياسي وليس له مال ولا وظيفة ولا سكن ولا مرتب فلما أصبح مقطوعاً من شجرة وهو أعزب فقير مشرّد قام في غرفته خطيباً ينادي زملاءه بإقامة الخلافة الإسلامية ونسي أن الأمة الإسلامية أمة المليار ونصف المليار من جاكرتا إلى نواكشوط عجزت عن أن تتفق على قرار واحد حول العراق وفلسطين وأفغانستان؟ ويريد هذا الأخ أن يجمع الأمة من غرفة في شقة في عمارة في شارع في حي من أحياء لندن (والجنون فنون). إن ممثلي الأمة ينبغي أن يكونوا من الحكماء العقلاء أهل العلم والعمل والحكمة والعطاء والبصيرة والاتزان، أما أهل الجهل والطيش والسفه والحمق فينبغي أن يطلبوا العلم وأن يتفرغوا لأمورهم المعيشية، فالنجار في نجارته والخباز في مخبزه والعامل في ورشته والفلاح في مزرعته وسوف يُشكرون ويُؤجرون؛ لأنهم أدوا ما عليهم من تكاليف، أما أن يكون منبر الجمعة وحلقة الدرس وشاشة التلفاز لكل من حفظ حديثاً أو قصة أو سالفة أو حكاية فهذا معناه الاستهزاء بعقول الناس والسخرية بأمة الإسلام وتشويه الدّين عند غير أهله.

واعلموا أن العلم والمعرفة يحتاجان إلى سنوات طويلة من الجد والمثابرة والعكوف والسهر والبحث والدراسة حتى يَهِن العظم ويشتعل الرأس شيباً، آمل من الشباب أن يتقوا الله في رسالتهم ودينهم وأمتهم، وألاّ يعبثوا بالمصطلحات الشرعية، وألاّ يجعلوا قضايا الإسلام لعبة، وألاّ يُضحِكوا علينا أمم الأرض، وألاّ يجعلوا ديننا نكتة يلوكها الحاقدون والمغرضون.

إن الإسلام دين رباني عالمي جاء للعقلاء والأسوياء، جاء يحترم العقل ويطهر الضمير ويصفي الروح ويصلح المجتمع وينشر المعرفة ويبني صروح الفضيلة ويقيم العدل والسلام والإخاء في العالم.