قباب المساجد في البلقان تحفة فنية في عرض الطبيعة

تعكس ضوء الشمس في النهار وضوء القمر في الليل.. وكأنها شموس على سطح الأرض

جامع الفرهادية في بنيالوكا قبل هدمه على أيدي الصرب («الشرق الأوسط»)
TT

تنوعت مظاهر فن المعمار الإسلامي الذي أبدع الكثير من الأشكال الهندسية التي لا تزال تحوز إعجاب المتخصصين والمهتمين بالفنون عموما وفن المعمار خصوصا. وقد ابتكر المهندسون المسلمون آيات من المعمار لا تزال شاهدة على روعة الإبداع والابتكار في شبه جزيرة ايبيريا، وفي القوقاز، وفي شبه جزيرة البلقان. ومن ذلك فن بناء القباب، ولا سيما قباب المساجد والأسواق المسقوفة. ولم يكن ذلك تاريخا حافلا بالإنجازات الحضارية تطاطئ له رؤوس الأنصار والخصوم على حد سواء فحسب، بل كان واقعا نشاهده في ما تم بناؤه في عصرنا الراهن بل في السنوات القليلة التي أعقبت الحرب في البوسنة 1992/ 1995. ولا يخفي أهل البلقان أنهم تعلموا الكثير من العثمانيين الذين كانوا رمزا للتقدم والتمدن في أوروبا، ولعدة قرون. وقال المهندس كمال كوسيتش لـ«الشرق الأوسط»: «في بداية العهد التركي كان معظم المشيدين والمهندسين المعماريين والمسؤولين عن المشاريع من العثمانيين الذين استقدموا خبراء محنكين في ميدان المعمار، وكان لهم الفضل في تعليم البوسنيين وغيرهم إلى أن اكتسبوا مهارات البناء الراقي، بل تبلورت على أيديهم لتصبح أرقى وأعظم»، وتابع «إن هذه الأبنية والمعالم زينة البلقان ومفخرته حيث ساهم فيها المحليون وتعلموا من خلالها الشيء الكثير. إنها ثمرة التعايش مع العالم الإسلامي الذي كان يجمع بين العلوم والفنون بشكل تلقائي وينفتح على جميع الثقافات وينفتح على جميع الاجناس». وبشهادة الكثيرين، حتى من الصرب والكروات والمقدونيين واليونانيين والرومانيين والبلغار، فإن فترة الحكم العثماني للبلقان كانت فترة بناء زاهرة أثمرت الكثير من التحف العمرانية التي لا يزال بعضها شامخا حتى الآن. لا سيما في البوسنة ومقدونيا وكوسوفو. أما تلك التي شيدت في صربيا فقد تم تدميرها، وبذلك سبق الصرب طالبان بعشرات السنين. وكان على الكتاب والمؤرخين أن يصححوا خطأ تاريخيا، حيث أطلقوا على الصرب «طالبان أوروبا» بعد تدميرهم للموروث العثماني في المتحف الوطني قبل بضع سنوات، ولم يكتفوا بتدمير المباني والتحف المعمارية العثمانية ومن بينها 200 مسجد في بلغراد لوحدها. ولم يبق منها اليوم سوى مسجد صغير. والحقيقة هي أن المساجد والموروث العمراني العثمانيعموما، لم تدمر في صربيا لوحدها، بل تعرضت للعدوان على مدى العقود الماضية، ولا سيما إبان حرب البلقان الأخيرة. وفي عام 1967 أشعل مجهولون النار في 72 مسجدا إلى جانب قصور الوزراء سابقا، ومئات المتاجر وآلاف المنقولات التي تشكل جانبا مهما من الموروث التاريخي والثقافي في المنطقة. ومع ذلك ظل ما سلم من برابرة التاريخ شاهدا على سالف المجد والعظمة، وتؤازره أعمال جديدة.

ويشير كمال سوكيتش إلى أنه «عند مجيء الأتراك شهدت مقدونيا والسنجق وكوسوفو والبوسنة وصربيا وبلغاريا وألبانيا نشاطا عمرانيا مكثفا سواء في مجال تهيئة المدن وتنظيمها، أو بناء المرافق الضرورية لخلق إطار حضري فيها، وذلك لأول مرة في تاريخ المنطقة» وقد تم إقامة مدن جديدة لم تكن قائمة من قبل، وأعيد بناء المدن القديمة وتم تشييد المدارس والمساجد والخانات والحمامات والفنادق والطرق والجسور».

ومن روائع الفن المعماري العثماني طريقة بناء قباب المساجد، فالقباب والأقواس بما فيها الجسور، من أكثر مميزات فن المعمار الإسلامي. وقد شكلت المساجد ذات القباب أهم معالم المعمار العثماني الإسلامي، في منطقة شهدت عدة أنماط معمارية منها النمط السلجوقي، والأسلوبين البروسي والإسطنبولي القديم وصولا إلى الطراز العثماني الكلاسيكي. وعن ذلك يقول كمال كوسيتش «من مزايا هذا النوع من المساجد أنها شيدت حسب وصفة ذكية تجعل من المسجد فضاء موحدا ومتجانسا يلتقي فيه الشق الداخلي بالباحة الخارجية»، ويعد هذا الطراز من أكمل الأنماط المعمارية في العالم ـ كما يقول المختصون ـ حيث يستجيب في نفس الوقت إلى الحاجات الوظيفية والروحية والجمالية، ولأنه يجمع بين البساطة والكمال الهندسي والأمانة الفنية والدقة العلمية. ويمكن ملاحظة التحف الفنية التي تمثلها قباب المساجد في البلقان، بزيارة مسجد يحيى باشا، في سكوبيا (1504)، ومسجد إسحق باي في بيتولي (1508)، ومسجد حيني في بيتولي (1558)، ومسجد حيدر قاضي في بيتولي (1561)، ومسجد عمرات في أهريد (مقدونيا)، ومسجد تل أليا في ستيب، ومسجد السلطان محمد الفاتح في بريشتينا (1461)، ومسجد ألتين عالم في نوفي بازار، السنجق، (1461)، ومسجد غازي محمد باشا في بريزرن، كوسوفو، (1561)، ومسجد خديم في داكوفيتشا (بين القرنين الـ16 والـ17)، ومسجد سنان باشا في بريزرن 1615) ويعتبر من أروع الإبداعات المعمارية وأجملها في منطقة البلقان، ومسجد حسين باشا بوليانيش في بيليفيا (1569)، ومسجد ألدرا في فوكا (1550)، ومسجد سنان باشا في كاينيتشي (1570)، ومسجد كلون يوسف باشا في ماغلاي، البوسنة (1584)، ومسجد فرحات باشا الذي يطلق عليه الفرهادية، في بنيالوكا والذي تم بناؤه عام 1579 وهدمه الصرب عام 1993، وهناك محاولات لإعادة بنائه من جديد ويحول دون ذلك فقدان التمويل اللازم (يحتاج لنحو 6 ملايين يورو)، وكذلك مسجد دفتاريا في بنيالوكا (1595)، ومسجد حاجي علي في بوتشيتيلي (1562)، ومسجد كراجوز باي في موستار (1557)، ومسجد محمد باشا كوسكا في موستار (1618)، ومسجد روزنام الدين في موستار، ومسجد بيني في ترافنيك (1549)، ومسجد شكركاشيا في سراييفو (1526)، ومسجد علي باشا في سراييفو (1561)، ومسجد فرحات باي في سراييفو (1562)، ومسجد القيصر في سراييفو (1565)، ومسجد الغزي خسرف بك (1530). ويعتبر مسجد باش تشارشيا في سراييفو من أروع ما أنجز على النمط الكلاسيكي، وتعد قبته من الأعمال الفريدة التي يفتخر بها الكثيرون لضخامتها وأناقتها تحيط بها مجموعة من القباب الصغيرة وأنصاف القباب، وهو أشبه ما يكون بمسجد الفرهادية ببنيالوكا الذي ينتظر إعادة بنائه. وتتعد ألوان القباب في البلقان، فمنها المطلية باللون الأخضر، لون الحياة الفطرية والنماء، ومنها المطلية بالنحاس، والتي تعكس ضوء الشمس في النهار وضوء القمر في الليل وكأنها شموس على سطح الأرض، أو أقمار ساجدة تحت ظلال صوامع ومنارات المساجد والمرتفعة في شموخ في عرض الطبيعة. وإذا ما تعرضت لعوامل الزمن أو عدوان أعداء التعايش والحضارة ترتفع من جديد في تحد وصمود وبهامات أعلى وتصميم أكيد على البقاء و الاستمرار.