لا يوجد آيسلندي لم يتضرر.. والتضخم يرتفع إلى 16%

آيسلندا في مواجهة الأزمة المالية

TT

وقع الانهيار بسرعة بالغة بدرجة جعلته يبدو في نظر الكثيرين أمرا غير حقيقي من المستحيل حدوثه. وقارنت إحدى السيدات هنا بين ذلك الانهيار والتعرض لحادث اصطدام بقطار، بينما قالت أخرى إن الأمر بدا وكأنها تتابع المشهد من نافذة، ولكن بالنسبة إلى سيدة ثالثة فقد جاء الأمر أشبه «بأن تتعرض للسجن دون أن تعلم ما الذي اقترفته». ويبدو أن ايسلندا، التي تتميز بقدر واضح من الحداثة والتعقيد لا يقل عن مستوى عزلتها الجغرافية، لا تزال تشعر بالصدمة حيال ما أصاب اقتصادها. وإذا كانت الأحداث التي تعرضت لها البلاد خلال الشهر السابق ـ إفلاس المصارف وتراجع قيمة العملة وتنفيذ أول موجة من إجراءات تسريح العمالة وفقدان السمعة الجيدة على الصعيد الخارجي ـ قد بدت لأبناء البلاد وكأنها كابوس بشع، فإن ايسلندا أفاقت من غفلتها الآن لتجد أن هذا الكابوس أصبح واقعاً. بيد أن هذا الأمر لا يعني أن العاصمة ريكيافيك، حيث يتمركز قرابة ثلثي سكان البلاد البالغ إجماليهم 300 الف نسمة، قد امتلأت بطوابير للحصول على الخبز أو أكواخ للمشردين أو أن مرتكبي عمليات السلب والنهب يحطمون واجهات المحال التجارية، وإنما يعني أن هذه المدينة، التي ظلت حتى وقت قريب موطناً لواحدة من أسرع موجات الازدهار الاقتصادي على مستوى العالم، باتت الآن مسرحاً لأسوأ تداعيات الانهيار الاقتصادي العالمي. ومن الصعب أن تجد أحداً في ايسلندا لم يتضرر بشدة من الأزمة المالية العالمية. وبين عشية وضحاها، فقد الأفراد العاديون مدخراتهم، في الوقت الذي اشتعلت فيه الأسعار. وباتت المطاعم التي كانت مزدحمة بروادها شبه خالية الآن. وبدأت المصارف تقتصد في صرف العملات الأجنبية، بينما تواجه الشركات صعوبة جمة في القيام بنشاطات تجارية بالخارج. وارتفع معدل التضخم 16 في المائة ولا يزال يتصاعد. وتوقف الايسلنديون عن السفر إلى الخارج. أما العملة المحلية، الكرونة، فبلغت قيمتها 65 أمام الدولار منذ عام مضى. أما اليوم فوصلت القيمة إلى 130. وفي مواجهة تلك الأوضاع، عمدت الشركات إلى إقرار خفض بالغ في الرواتب وتقليص ساعات العمل، بل شرعت في بعض الحالات في إجراءات تسريح أعداد ضخمة من العاملين لديها. وفي تعليقه على الأمر، أكد جون دانيلسون، الخبير الاقتصادي بكلية لندن للاقتصاد، أنه «لم يسبق أن انهارت دولة بمثل هذه السرعة والحدة في وقت السلم». ومن الواضح أن تداعيات الأزمة تمتد إلى ما وراء النطاق الشخصي، حيث تسببت في هزة في مشاعر الفخر والاعتزاز الوطني لدى البلاد ككل. وعلى سبيل المثال، قالت كاترين رونولفسدوتير، 49 عاماً، التي تعرضت للفصل من عملها كسكرتيرة في 31 أكتوبر (تشرين الأول) «منذ سنوات عدة، كنت أقول إنني ايسلندية وربما كان الآخرون يتساءلون: حقاً، أين تقع هذه البلاد؟». واستطردت «كان هذا أمرا لا بأس به، لكن الآن أصبحت صورتنا أننا أشخاص نفرط في الإنفاق ولصوص». وفقدت ألديس نوردفيورد، 53 عاماً، المهندسة المعمارية هي الأخرى وظيفتها في الشهر السابق، وكذلك جميع زملائها البالغ عددهم 44 ـ أي جميع العاملين بالشركة فيما عدا مالكيها. ونوهت نوردفيورد بأن ما يصل لـ75 في المائة من المهندسين المعماريين العاملين بالقطاع الخاص ربما يكونون قد فقدوا وظائفهم خلال الأسابيع القليلة الماضية. إلا أنها استطردت بقولها إنه من المثير للارتياح ـ على نحو غريب ـ أن يكون المرءُ واحداً بين كثيرين يتعرضون للوضع ذاته. وأضافت «الجميع يجابهون الموقف ذاته. ولو تخيلنا أن 10 فقط من 40 شخصاً تعرضوا للفصل، لكان الأمر اختلف، وكان سيراودك شعور يدفعك للتساؤل: لماذا أنا تحديداً؟ لم لا يكون شخص آخر؟».

وحتى الربيع الماضي، بدا الاقتصاد الايسلندي في وضع جيد للغاية، حيث تمتع برابع أكبر معدل إجمالي ناتج محلي بالنسبة للفرد على مستوى العالم، في الوقت الذي تراوحت فيه معدلات البطالة ما بين 0 و1 في المائة (بينما تشير التوقعات إلى وصول معدلات البطالة إلى 10 في المائة في الربيع المقبل). واعتبر تقرير أصدرته الأمم المتحدة توقعات العمر والدخل الحقيقي بالنسبة للفرد والمستويات التعليمية أيسلندا أفضل دولة في العالم يمكن للمرء أن يعيش بها. ونظراً لقوة الكرونة، أقدم الايسلنديون، الذين سبق أن اتسموا بالاقتصاد في إنفاقهم، على القيام بجولات تسوق في عطلات نهاية الأسبوع في بعض الدول الأوروبية، وقاموا بشراء سيارات فارهة وبنوا منازل أكبر من خلال حصولهم على قروض بالعملة الصعبة بمعدلات فائدة منخفضة. ومثلما كان الحال مع قبائل الفايكينغ قديماً، طاف المصرفيون الايسلنديون العالم وسعوا بجد لانتهاز فرص إبرام صفقات تجارية، مما جعل من الديون عنصراً رئيساً في النظام المصرفي الايسلندي. والآن، تقف المصارف عاجزة عن سداد الديون الأجنبية التي تثقل كاهلها وتصل إلى عشرات المليارات من الدولارات. من جهتها، شددت أدالهيدر هيدنسدوتير، التي تدير سلسلة صغيرة من المقاهي تدعى كافيتار، علاوة على بيع القهوة بالجملة إلى المحال الأخرى، على أن المصارف «هي التي دمرت سمعتنا» قبل الأزمة الاقتصادية، كان هناك الكثير من العمل داخل البلاد، مما دفع أصحاب العمل لاستيراد عمالة من الخارج. واضطرت نوردفيورد، المهندسة المعمارية، للعمل وقتا إضافيا في أيام عديدة العام السابق، لدرجة جعلتها تضاعف راتبها. واستضافها برنامج إذاعي سويدي باعتبارها خبيرة في الازدهار المعماري غير المسبوق الذي كانت تشهده ايسلندا آنذاك. إلا أنه منذ شهرين، ألغت شركتها كل العمل الإضافي. ومنذ أسبوعين، اعترفت الشركة بأن عجلة العمل بها تباطأت، لكنها وعدت بأن تكون كمية العمل المتوافرة كافية كي تمضي الشركة قدماً حتى الصيف القادم. وفي اليوم التالي مباشرة، تم استدعاء جميع الموظفين إلى غرفة الاجتماعات وإخبارهم بنبأ الاستغناء عنهم.

ومن الواضح أن الأضرار التي مُنيَّ بها أصحاب العمل لا تقل عن تلك التي أصابت العاملين. على سبيل المثال، اضطرت هيدنسدوتير إلى تسريح سبعة من العاملين لبعض الوقت لديه، وتقليص ساعات العمل بالنسبة للعاملين كل الوقت ورفع أسعار المنتجات التي تقدمها. عندما شاهدتها، كان فرع كافيتار في الشارع التجاري الرئيسي بالعاصمة ممتلئاً للنصف تقريباً بالزبائن، بينما في الأحوال الطبيعية، كان يعج بهم.

وفي الوقت الذي تتراجع فيه وتيرة النشاط التجاري، تشتعل التكاليف. يذكر أنه عندما سيطرت الحكومة على المصارف المتداعية في أكتوبر (تشرين الأول)، كانت آخر شحنة من القهوة تخص هيدنسدوتير ـ يصل وزنها ما يزيد على 106 آلاف رطل في طريقها إلى ايسلندا من نيكاراغوا. ورغم أنها امتلكت المال اللازم لسداد ثمنها، إلا أن الأزمة المالية جعلت المصارف حذرة تجاه القيام بأي نشاط تجاري مع ايسلندا، مما جعلها عاجزة عن تحويل قدرٍ كافٍ من النقد إلى عملة صعبة. وقالت هيدنسدوتير عن دائنيها «كانوا يتصلون هاتفياً كل يوم ليستفسروا مني عن الوضع العام، وكانوا متوترين حقاً». وبلغ القلق بالدائنين مبلغاً دفعهم لتوجيه الشحنة إلى مخزن بمدينة هامبورغ الألمانية، حيث ظلت هناك، بينما كانت هيدنسدوتير تحاول الحصول على عملة صعبة لسداد ثمنها. أما التكاليف الثابتة لهيدنسدوتير، فلم تعد كذلك. منذ خمس سنوات، قامت الشركة ببناء مصنع جديد، واقترضت 120 مليون كرونة ـ (ما يعادل حوالي 1.5 مليون دولار) ـ بالعملة الصعبة. إلا أن تداعي قيمة العملة زاد من ديونها لتصل إلى 200 مليون كرونة. وخلال هذا الصيف، كانت قيمة المبالغ الشهرية التي تدفعها سداداً للديون 2.5 مليون كرون، أما الآن، ربما يكون المبلغ قد وصل إلى ضعف ذلك ـ حيث وصل إلى ما يعادل 38.500 دولار من العملة الأيسلندية المتراجعة قيمتها. وقالت هيدنسدوتير: «يجري مديرو المالية اتصالات بالمصارف بصورة يومية، ولا نعلم حجم الأموال التي يتعين علينا دفعها».

جدير بالذكر أنه خلال مسح أُجري أخيراً، قال ثلث الايسلنديون إنهم يفكرون في الهجرة. أما الأجانب فقد بدأوا بالفعل في الرحيل.

على سبيل المثال، أشار أنتوني ريستيفو، أميركي الجنسية، الذي كان يعمل في مزرعة للبطاطس شرق أيسلندا، وكان في طريقه للعودة إلى وطنه، إلى أن جميع العمال الأجانب في المزرعة تركوا العمل فجأة في الشهر السابق بسبب انخفاض أجورهم بدرجة بالغة. وأضاف أن أحد الأشخاص قدم من بولندا، ثم عندما أدرك إلى أي مدى كانت قيمة الكرونة ضئيلة، عاد إلى وطنه في اليوم التالي. داخل مركز كرينجلان للتسوق التجاري، الواقع على أطراف ريكيافيك، أشارت هرون هلجادوتر، التي تعمل بمحل أفيدا لمستحضرات التجميل، إلى إنه لم يعد بمقدورها السفر إلى الخارج. واستطردت موضحة أنه في إجازة نهاية الأسبوع السابق، سافرت وزوجها في رحلة أخيرة إلى أمستردام، وهي إجازة سددا ثمنها منذ شهور، عندما كانت الكرونة ما تزال قوية. وخلال الرحلة، حرص الزوجان على تناول أرخص طعام ممكن ولم يقوما بشراء أي شيء. وقالت هلجادوتر: «لقد كان من الغريب أن نقف في محل وننظر إلى سعر حقيبة أو زوج من الأحذية لنجد أنه يبلغ 100 الف كرونة، في حين أنه بلغ في العام السابق 40 الف فقط». وفي كوبافوجر، إحدى ضواحي العاصمة، قالت رونولفسدوتير، السكرتيرة التي تعرضت للفصل أخيراً، إنها شعرت بالقلق لبعض الوقت إزاء إمكانية أن تنهار ايسلندا. وأضافت: «عندما أقوم بالقيادة عبر شوارع ريكيافيك، وأرى كل تلك المنازل الجديدة، يراودني التساؤل: من أين سنأتي بأفراد يعيشون في جميع هذه المنازل؟». ونوهت رونولفسدوتير بأن شركة العقارات التي كانت تعمل لحسابها بنت 800 منزل منذ عامين، وأن 40 في المائة من المنازل تم بيعها. يذكر أنه تبعاً للقانون الايسلندي، فإن رونولفسدوتير والعمال المفصولين الآخرين يتلقون إخطاراً بفصلهم قبل رحيلهم عن العمل بثلاثة شهور. بحلول نهاية هذه الفترة، يبدأون في تلقي إعانات بطالة. في تلك الأثناء، باتت استثمارات زوج رونولفسدوتير المتواضعة في العديد من المصارف الايسلندية المفلسة حالياً بلا قيمة. وفيما يتعلق بتلك المصارف، قالت رونولفسدوتير «لقد شجعونا على شراء أسهم في شركاتهم حتى اللحظة الأخيرة». وأبدت رونولفسدوتير استياءها إزاء الحكومة، التي تعتقد أنها أساءت التعامل مع كل شيء. كما أعربت عن غضبها من المصارف التي شوهت سمعة ايسلندا. ورغم إبدائها تعاطفها مع مئات الآلاف من المودعين الأجانب الذين ربما فقدوا أموالهم، تساءلت رونولفسدوتير لماذا يتعين على الحكومة الايسلندية ـ بمعنى أدق الشعب الايسلندي ـ التعرض للمزيد من المعاناة عما جابهه بالفعل. وفي هذا الصدد، علقت رونولفسدوتير بقولها «إننا لم نطلب من أحد إيداع أمواله مصارفنا. إنها شركات خاصة ومصارف خاصة، اتجهت للخارج وقامت بصفقات تجارية هناك». ورغم كل ذلك، يتميز الايسلنديون بطبيعتهم بالتفاؤل، الأمر الذي ربما يعود لعيشهم في واحدة من أجمل بلدان العالم من حيث المناظر الطبيعية، علاوة على اعتمادهم على امتداد فترة طويلة من تاريخهم على صناعة صيد الأسماك المتقلبة. وأوضح بعض الايسلانديين أن ضعف قيمة الكرونة سيزيد جاذبية الصادرات. إضافة إلى ذلك، تتمتع ايسلندا بشعب ينتمي الجزء الأكبر منه إلى الشباب الذين حصلوا على مستوى عال من التعليم، وسبق أن تغلب على صعاب من قبل. من جهتها، أشارت راجنا سارا جونسدوتر التي تدير شركة صغيرة للاستشارات، إلى أنها التقت ـ للمرة الأولى ـ بممثلين من شركات تجارية أخرى. وأضافت: «جلسنا معاً وقلنا: لدينا جميعاً أفكار، وباستطاعتنا مساعدة بعضنا البعض للمرور من الأزمات». إلا أنها أكدت أنها شعرت بالصدمة مثل غيرها من الايسلانديين إزاء السرعة البالغة والحدة التي اتسمت بها الأزمة التي ضربت البلاد. وعندما وجه رئيس الوزراء، جير إتش. هارد، خطاباً للأمة مطلع أكتوبر (تشرين الأول) طلبت منها ابنتها، 6 سنوات، أن تشرح ما يقول، فأخبرتها أن هناك أزمة، لكن رئيس الوزراء لم يخبر الشعبَ ما تنوي حكومته عمله للتصدي لها. وردت ابنتها «ربما لم يدر ماذا يقول».

* خدمة «نيويورك تايمز»