الآثار التاريخية في البلقان.. رمز للتواصل بين الناس والثقافات

روائع إسلامية في المنطقة تربط الحاضر بالماضي.. وثروة وكنوز لا تقدر بثمن

جسر موستار التاريخي («الشرق الأوسط»)
TT

الآثار هي الجذور التي تربط الحاضر بالماضي، والماضي بالمستقبل، وهو ما يتجسد في مقولة «لا مستقبل لمن لا ماض له» والماضي ليس تحفا يحتفظ بها في زوايا المنازل وأفنية القصور، بل ثروة وكنوز لا تقدر بثمن، فإلى جانب قيمتها التاريخية والحضارية والثقافية، تمثل رافدا اقتصاديا مهما للكثير من الدول. وفي هذا الإطار تبرز السياحة الأثرية، كأحد عطاءات الماضي، واستلهام العبر واستخلاص الاستفادة من تجاربه. والماضي أو الآثار ليست كل ما هو مادي، بل كل ما سبق في مختلف المجالات المعرفية، إذ أن تاريخ الفلسفة على سبيل المثال، ليس سوى شروح لما قاله أرسطو قبل أكثر من 2400 سنة. وتتعدت الروائع الأثرية الاسلامية في البلقان، سواء فيما يتعلق بالمساجد التاريخية، أو قنوات ونوافير المياه أو الجسور أو الخانات ومحطات القوافل والتي تجاوز عددها الخمسين في سراييفو بحلول سنة 1878، فعلى الطريق الفاصلة بين سراييفو ونوفي بازار عاصمة السنجق (ملحقة بصربيا حاليا) ويعتبر خان موريتشا، أو موريتشا خان من الآثار التي تثير الحنين في نفوس زائريها من الأتراك وبقية المسلمين في العالم. والتي تحولت الآن إلى مطاعم ومقاه وبازارات لبيع السجاد ومكاتب. وليس صدفة أن تتخذ جمعية الشباب المسلم التي كان الرئيس المفكر علي عزت بيجوفيتش رحمه الله عضوا بارزا فيها، جانب من الخان مقرا لها، فللتاريخ ايحاءات وآمال واستشرافات، وليس ماضيا وحسب. ويمثل الماء في الثقافة الاسلامية، سر الوجود، وشرط بقائه «وخلقنا من الماء كل شيء حي» وقد اعتنت الثقافة الاسلامية بالماء وورد في ذلك أحاديث نبوية كثيرة، منها ما يتعلق بالطهارة، ومنها ما يتعلق بالاقتصاد، ومنها ما يتعلق بالدور المحوري للماء في التاريخ. كقصة موسى وفرعون، وقصة طالوت، وقصة هاجر عليها السلام وزمزم وغير ذلك من القصص التي مثل الماء دورا مهما فيها. وفي الحضارة الاسلامية سبق المسلمون الامم الأخرى في العناية بالماء والانتفاع به كما هو الحال في البلقان.

وقال الباحث محمد تشايلاكوفيتش لـ«الشرق الاوسط» إن الاهتمام الذي كان يوليه المسلمون والتفنن في ذلك، نابع من حرص الاسلام على النظافة، الوضوء والغسل من الجنابة، وغسل الجمعة، ودعوة من يحمل رائحة تؤذي المصلين بعدم دخول المساجد. فالمسجد هو الصورة المثالية لما يجب أن يكون عليه المسلم في الحياة العامة، إذ أن حياة المسلم بكل تفاصيلها من الفراش إلى المختبر عبادة، أو هكذا ينبغي أن تكون. ويمثل الماء أحد الرموز الدينية البارزة، وللماء ثلاث وظائف غالبا ما تتداخل فيما بينها، الوظيفة النفعية والجمالية والرمزية. والجميع يعرف أن مدنا اسلامية في البلقان مثل سراييفو توفرت فيها شبكة للتزود بالمياه، وقد سبقت في هذا المضمار كبرى المدن الاوروبية، وفي ذلك عبرة لمن يعتبر. ويؤكد المهندس كمال زكي في حديثه مع «الشرق الاوسط» على أن «الحمامات العمومية التي لم يكن لها مثيل في الغرب، والذي نسج على منوالها في العصر الحديث بما يسمى «السونا» كانت تعبر عن مدى أهمية الطهارة والنظافة في الاسلام. وذلك من خلال بنائها المحكم وحجمها وجماليتها. وقد بني أول حمام عمومي في سراييفو عام 1462. وبلغ عديد تلك الحمامات 7 في أواخر القرن السادس عشر. وشيد حمام «دوت باشا» في سكوبيا عام 1489، ويتميز بقبتين كبيرتين و11 قبة صغيرة، وبذلك يعتبر من أكبر الحمامات في منطقة البلقان». و«شيد حمام الغازي خسرف بك عام بين 1556 و1573. وهذه الحمامات منقسمة كما هو معروف إلى قسم للرجال وآخر للنساء، ولذلك علاقة بفلسفة الاخلاق في الاسلام. وهناك حمامات مماثلة في مدن أخرى بالبلقان مثل بيتولي، وديبار وأهريد (مقدونيا) وبرليب، وستروكا، وتيتوفو وكوسوفو ونوفي بازار وبريشتينا وبريزرن وتتيتو غراد، وفوشترن وغيرها. كما يتجلى حسن استغلال المياه في النافورات العمومية التي تجمع بين الأبعاد الرمزية والجمالية والعلمية، وأجمل هذه الابداعات هي التي توجد في ساحات المساجد، مثل نافورات مسجد محمد كوسكي باشا، ومسجد هرتدوس باي، ومسجد سنان باي، في كاينينيش، ومسجد سلطان اسمي، في بايتشا، ومسجد مصطفى باشا، في سكوبيا، ومسجد الغازي خسرف بك في سراييفو، ومسجد ألاجا في فوتشا». وتعتبر النافورات من ميزات الكثير من المدن الاسلامية عبر العالم، ولا سيما في البلقان. ومياهها صالحة للشرب فضلا عن الوضوء والاستحمام. «وكان في بلغراد أكثر من 600 نافورة عمومية تم تدميرها جميعا، في حقد أعمى منقطع النظير. وفي البوسنة صممت المدن بحيث تدمج الأنهار التي تقع عليها بشكل متناغم مع مجالها الحضاري. وكما سبق فقد زودت سراييفو على سبيل المثال بنظام مائي قبل أي مدينة أوروبية أخرى سنة 1462 ومعها نافورات المياه التي يزيد عديدها عن 156 نافورة، تم اغلاقها جميعا في العهد الشيوعي، لا لشيء سوى أن من قاموا ببنائها يعبرون بذلك عن ثقافتهم»! فقد كتب الروائي الكرواتي الشهير ميروسلاف كرليزا يقول «في ظرف ألف سنة وبضع سنوات أصبحت سراييفو تتوفر على أول نظام مائي وأول حمام، أما سكان مدينة شونبران، فكان عليهم انتظار 4 قرون وما يزيد حتى يتوفر لديهم حوض لغسل الوجه واليدين». وتعد الجسور من المآثر الكبرى للتاريخ الاسلامي في البلقان، فهي ترمز للتواصل وتجسير العلاقات بين الناس والاماكن والثقافات. ويذكر كمال زكي أنه «في 1566 بدأ المهندس فجر الدين في بناء أروع الجسور على نهر نيرتفا،(موستار) وهو يشبه هلال يحتضن النهر في حنو ولطف كبيرين، ومن خلاله تبدو مئذنة وجامع. إذا نظرت إليهما من تحت الجسر تبدو لك المياه وكأنها زجاج، والجسر عدسة كاميرا تصوير مصوبة نحو المسجد والمئذنة. وفي سنة 1571 شرع الصدر الاعظم محمد باشا سوكولوفيتش ببناء جسر على نهر درينا وقد استدعى لتلك المهمة أحد أمهر المهندسين الذين تركوا بصماتهم واضحة على تاريخ المعمار والآثار الخالدة في البلقان، وهو المهندس المعروف بـ«سنان». وبعد 6 سنوات تمكن المهندس العبقري من التغلب على كافة الصعوبات التي اعترضت طريق تشييد تحفته الفنية، وأتم بناء الجسر الذي يبلغ طوله 180 مترا، وعرضه 7 أمتار، ويرتكز على 10 قواعد و11 قوسا». وتزخر ربوع البلقان بهذه الروائع التي تعكس شغف الثقافة الاسلامية بالماء، مثل جسر، زيبا، وجسر كوزيا نوبوريا، وجسر تشابلينا، وجسر شيهان، وجسر بلاجوي وجسور نهر ميليتسكا في سراييفو، ويزيد عديدها عن 12 جسرا. وكلها آيات في الجمال والشاعرية. وقد أوحت للعديد من الشعراء في البلقان بالكثير من القصائد والاناشيد التي تأتي على ذكرها. وحاز الكاتب اليوغوسلافي الراحل ايفو أندريتش على جائزة نوبل للآداب، على روايته «فوق جسر فيشي غراد». كما توجد جسور في مقدونيا محكمة التصميم وغاية في الابداع، مثل جسر نهر فردار، الذي شيد في القرن 15، والذي يحتوي على 14 قوسا، وجسر بريزرن وبه ثلاثة أقواس. وقد انتهت الاعمال بجسر نيس عام 1619، أما جسر فرانيبي الذي شيد على قوس واحد فقد أفرغ من بنائه عام 1844. بقي القول إن جسر سكوبيا في مقدونيا مقام على 54 قوسا. ومن الآثار المميزة، الأسواق المسقوفة (بازيستان) والتي أنشئت كما قال سليم ياركوتش، مدير دار القلم في سراييفو «من أجل تحسين الظروف التجارية. وتتكون من مجموعة من المتاجر وتستوحي هذه المراكز التجارية أسلوب بنائها من مسجد «أولو» في بروسا. وهي ذات مساحات مربعة تعلوها قباب متساوية الحجم، وتتوزع فيها أقواس بشكل متواز ومتماثل، وتستند هذه البنايات إلى عدد معين من الأعمدة». وهي الابنية الوحيدة التي اعتمد فيها هذا الأسلوب المختلف عن النسق التقليدي للمساجد العتيقة. وفي سراييفو بنيت الاسواق على النمط البروسي، ويعود تاريخها إلى 1551. وتتكون من 6 أجزاء متساوية تعلوها 6 قباب متشابهة، وتحيط بها متاجر عديدة. أما باستان الغازي خسرف بك، في سراييفو فهو مصمم بطريقة مختلفة، فهو يجمع بين نمط البازيستان والبازيليكا. وكان لهذه المراكز التجارية خصوصيات ومقومات معينة جعلتها تشكل نموذجا عالميا لمثل هذه الأبنية خلال القرن السادس عشر. وهناك مراكز مماثلة في ستيب وسكوبيا وبيتولي، وتركيا ولا سيما اسطنبول وأدرنة». وفي المجال العلمي سبق انشاء مدرسة الغازي خسرف بك 1537، جامعات هارفارد، واكسفورد، والسوربون، والتي كانت معاهد ثانوية قبل أن تتحول إلى جامعات عريقة. وقد عرقل تحويل الغازي خسرف بك، إلى جامعة اسلامية أوروبية، شروط البعض وتعصبهم، وضيق أفق آخرين وانغلاقهم.