منارات المساجد في البلقان.. تنوع فريد والرسالة واحدة

شيدت في السنوات الأخيرة من إبداعات هندسية لم تعرفها المنطقة من قبل

جامع الأميرة الجوهرة في بوغوينو من الابداعات الهندسية التي لم تعرف منطقة البلقان لها مثيلا («الشرق الأوسط»)
TT

يحتفل المسلمون البلقانيون بمنارات المساجد، احتفالا ينقطع نظيره في أي مكان من العالم، حتى غدا ذلك مضرب الأمثال، فيقولون «تشوفيك بيز دروغارة، كو جامع بيز منارة» أي انسان بدون أصدقاء كجامع بدون منارة. ولا تعد المساجد في البلقان مكتملة، في نظر أهالي البلقان المسلمين، ما لم تبن مناراتها. وقد أبدع البلقانيون في بناء منارات المساجد، التي اتخذت ملامح مختلفة. ولا سيما العقود الأخيرة، التي شهدت تعددا في طرق بناء أشكال المنارات. ففي العهد العثماني غلب الشكل الاسطواني، على المنارات التي تشبه الأقلام، رمز القراءة والعلم، في قوله تعالى «إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لا يعلم» (سورة العلق). وقد ساد النمط العثماني في البلقان، حتى في الفترة التي أعقبت خروج الأتراك من غرب البلقان في أعقاب مؤتمر برلين 1878. وهناك منارات مساجد عتيقة، وأخرى جديدة على النمط العثماني، أي اعتمدت الشكل الاسطواني، سواء التي بنيت أثناء الاحتلال النمساوي الهنغاري، أو في الحقبة اليوغوسلافية بشقيها الملكي (1918 / 1939) والاشتراكي (1945 / 1990) وما بعد ذلك حتى اليوم. وتعتبر المنارات كما هي المساجد عموما، الواجهة التي تعكس أكثر من غيرها، النمط العمراني الذي يطبع كل حقبة زمنية في تاريخ المسلمين. وهي بالتالي تؤرخ لمسيرة التطور، وبشكل نهائي ودقيق، غير قابل للائتلاف أو النسيان. إذ أن التصاميم المعمارية للمعالم الحضارية، تحظى بقدسية ثقافية، تمليها المشاعر الجياشة تجاه التراث، ولا سيما إذا كان تراثا دينيا اسلاميا، يذكر بعهود التمكين في أزمنة الانكسار. وعهود الريادة في أزمنة التبعية، وعهود التقدم في أزمنة التخلف المعقد بالحداثة، دون اكتساب مقوماتها، وأبرز مظاهرها المتمثلة في الحريات الأربع، ومرجعية الأمة، في سؤال السلطة. وهي مظاهر ليس من الصعوبة التدليل عليها في المراجع الذاتية. ويقف خلف الفن المعماري القديم والحديث مهندسون تركوا بصماتهم واضحة على تاريخ المعمار، منهم على سبيل المثال، آدم عسير، والمهندس ميمار، والمهندس المعماري العثماني، فجر الدين سنان، الذي صمم مسجد السطان بايزيد الثاني عام 1506، وقد طبع هذا المهندس المعماري العبقري الخلاق، كما يصفه المؤرخون، مجموع المعالم الحضارية في البلقان على مدى نصف قرن. وهو الذي صمم مسجد الغازي خسرف بك ومنارته الفريدة، في سراييفو. وتبلغ مجموعة ابداعاته أكثر من 350 معلما من أشهرها جسر فيشي غراد، الذي نال بسبب رواية كتبها حوله الكاتب ايفو اندريتش، جائزة نوبل للآداب سنة 1961. وقد بلغ الفن العثماني أوجه في القرن الخامس عشر، لكن بعض المناطق لم تشهد توسعا في هذا المجال سوى في القرن السادس عشر، ومن ذلك البوسنة. ويمثل مسجد علي باشا، تحفة معمارية حضارية فقد بني بالحجر المصقول على هيئة مربع (9.5 متر على 9.5 متر) وصومعته مزخرفة بشكل رائع، رعيت فيه أدق التفاصيل. ومن عجائب المنارات التي تعلو الكثير من المساجد أن بعضها بني من الخشب. ولا يمكن للمرء معرفة ذلك ما لم يتفحص بدقة جدرانها المصقولة، مما يؤكد على تمكن الحرفيين الذين شيدوها من صنعتهم، سواء في مجال صقل الحجارة والطوب أو الخشب، الذي يعتبر البلقان أحد مواطنه البارزة، ويمكن ملاحظة ذلك في مساجد كثيرة. وهناك المساجد ذات الأسقف الرباعية وفي أشكال هندسية تمنع تكدس الثلوج فوق الأسطح، والصوامع الخشبية مما يدلل على روح الابتكار التي يتمتع بها الأهالي الذي استلهموا بسرعة سر البراعة العثمانية، وجعلوا منارات مساجدهم منسجمة تماما مع المحيط والطبيعة التي تتحول إلى جنان أرضية في فصل الربيع والصيف. أما منارة جامع، ديوان كاتب حيدر، الذي بناه كاتب الباي غازي عام 1536 بمدينة ترافنيك، فهي من أجمل منارات المساجد، والتي تقع في أسفلها تلك الارائك الخارجية التي يعلو بعضها البعض. ويعرف المسجد باسم «الجامع الأبيض» بالاضافة إلى منارة مسجد مصطفى فليحراك الذي تم تشييده بين 1540 و1561 ويعد من أكبر المساجد العتيقة وأشهرها. كما يعرف باسم جامع الحج، وسمي كذلك لانه غالبا ما شكل نقطة انطلاق الحجيج إلى البقاع المقدسة. أما اليوم، فيعد جامع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز في سراييفو منطلق زوار بيت الله الحرام والحجيج من كل موسم. ومن المساجد ذات المنارات الحجرية المصقولة مسجد «المغربية» ويقال إن مسلمين من المغرب الأقصى قاموا ببنائه، وجعلوا له سقفا من الخشب. وهناك الكثير من المنارات التي دمرها الصرب، مع مساجدها، أثناء عدوانهم على البوسنة وكوسوفو، منها على سبيل المثال جامع الأجا بمدينة فوتشا شرق البوسنة، والذي بني سنة 1550، وجامع السلطان بايزيد الذي يطلق عليه البوسنيون جامع سراييفا وبني سنة 1500، وجامع علي باشا وبني سنة 1546 وقد تم هدمه من قبل الصرب في أبريل (نيسان) من سنة 1992، وجامع عثمان أفندي وبني عام 1593، وجامع أمين تورخان وبني سنة 1448 وجامع سراييفا في فيشي جراد وجامع غضنفر بك في فيشي جراد أيضاً وجامع شمس الدين المعروف تشارشيسكا روجاتيتسا بني هو الآخر في القرن السادس عشر تم قصفه بالدبابات، وجامع حسين بك المعروف باسم مسجد أنووديا روجاتسا بني عام 1558 وقد تم تدميره بالكامل، وجامع ريتشانسكا في زفونيك تم تدميره بالكامل، وجامع سريدنيا في مودريتسا بني في القرن الثامن عشر وتم نسفه بالمتفجرات، وقد قام الصرب بذبح عدد من المسلمين في نفس المكان، وجامع عثمان بك في موديتسا بني في القرن التاسع عشر ونسف هو الآخر بالمتفجرات. وجامع السلطان سليم المعروف باسم السليمية بني في القرن السادس عشر بالقرب من قلعة دوبوي تم تفجيره بالكامل في مايو (ايار) سنة 1992. وجامع شادرفان في مدينة فيسوكو. وجامع شاربينا في ترافنيك، وجامع تشارشيسكا في مدينة دوني واقف، وجامع هاندان أغا بني قبل 400 عام ونسفه الصرب بالمتفجرات، وجامع علي المعروف باسم مسجد بردسكا، وجامع كافي، وجامع محمد الأغا في توزلا بني في القرن السادس عشر، وجامع السلطان عصمت في مدينة ياييتسا وهو من أهم الآثار العمرانية في البوسنة بني سنة 1749، وجامع إبراهيم بك في ياييتسا أيضاً بني في القرن السابع عشر، وجامع السلطان أحمد في مدينة بوغوينو بني سنة 1663، وجامع سانسكي موست وهو من أجمل المساجد تم هدمه في مايو سنة 1992، وجامع حجي كورتو في موستار بني في القرن السادس عشر ونسف في 6 مايو 1992، وجامع ناصوح أغا في موستار بني عام 1528 وهدم في مايو 1992، وجامع بابا بشير بني عام 1631، وتم تدميره في أبريل 1992، وجامع إبراهيم أغا شاريتش، وجامع السلطان أحمد المعروف في تريبينيا بُني عام 1719، وجامع السلطان بايزيد في نيفيسيني بُني في أواخر القرن الخامس عشر، وجامع سنان ديدي أفندي بُني في مطلع القرن السادس عشر، وجامع تيلاريفيتش في ستولاتس بجنوب شرقي البوسنة بُني في القرن السابع عشر نسفه الصرب بالمتفجرات، وجامع فرحات باشا بمدينة بنيالوكا، وجامع حسن دفتر دار، وجامع بوسانسكي كروبا بُني في القرن الثاني عشر، وجامع القبطان حسين غرادتشاس بُني في عام 1826، وجامع سراييفا في سراييفو بُني عام 1565، وجامع خسرو بك بسراييفو أيضا تعرض للقصف 70 مرة، وجامع علي باشا بُني عام 1560، وجامع خواجا دوراك المعروف باسم باش تشارشيسكا بُني في القرن السادس عشر، وجامع تشارشيسكي في سراييفو بُني عام 1526، وجامع فرحات بك المعروف باسم الفرهادية بسراييفو، وجامع حجي عثمان بُني عام 1591. وقد تم إعادة بناء الكثير منها على نفس الطراز الأول لتحتفظ بطابعها الثقافي ودلالاتها التاريخية وتنوعها الفريد ورسالتها الواحدة. وتعد المنارات التي بنيت بعد العهد العثماني، أكثر تنوعا من حيث الأشكال الهندسية، وإن لم تخرج عن رمزيتها الحضارية، كإشارة للعلم وللاعلام، (الأذان) بالإضافة لما تضفيه على الأرض والانسان من هوية ثقافية. وهنا تبرز منارات المساجد التي بنتها، الهيئة السعودية العليا، أو لجنة الدعوة الاسلامية الكويتية، أو احياء التراث، وغيرها من الهيئات. وتعد منارتي جامع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز في سراييفو، ومنارتي جامع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله في توزلا، ومنارة جامع الأميرة الجوهرة في بوغوينو، ومنارة جامع الأنصار في زينتسا، (وجميعها تم افتتاحه في بداية الألفية الثالثة) وغيرها من المنارات التي شيدت في السنوات الأخيرة، من الابداعات الهندسية التي لم تعرف منطقة البلقان لها مثيلا من قبل.