إشكاليات الإصلاح الديني تفتح أبواب الاجتهاد أمام علماء ومفكرين في مؤتمر بمكتبة الإسكندرية

أكدوا على إطلاق باب الحوار.. وتمكين العقل من أداء دوره بلا قيود

جانب من مؤتمر مكتبة الإسكندرية حول «اتجاهات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث» («الشرق الأوسط»)
TT

فتح مؤتمر، نظمته أخيرا مكتبة الإسكندرية حول «اتجاهات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث»، حوارا موسعا بين علماء ومفكرين عرب حول مفهوم الإصلاح نفسه، ودلالاته، وآفاق توجهه، وآليات تنفيذه.

قدم المؤتمر، على مدى ثلاثة أيام، مقاربات مهمة لمفهوم الإصلاح، وبخاصة بين أصحاب التفسير المادي للتاريخ، وأصحاب التفسير الليبرالي، وأصحاب التفسير الديني، وبين غيرها من الرؤى والأفكار.

فمن جهته، يرى الدكتور عبد الوهاب أحمد الأفندي، منسق برنامج الديمقراطية والإسلام في لندن، أن الفكر الإسلامي التقليدي كانت له أساساً إشكالياته التاريخية مع الدولة التي كانت أول معضلة فكرية وأخلاقية واجهها المجتمع الإسلامي في فترة تكوُّنه الأولى، وهي معضلة فشل في التوصل إلى حل لها. فالفكر الإسلامي كان فكراً مأزوماً، حتى قبل أن تواجهه تحديات الحداثة، والدولة الإسلامية كانت دولة مأزومة قبل أن تعقد أزمتها الحداثة. فحكم المماليك في مصر، وحكم الطبقة العسكرية في الدولة العثمانية كانا تعبيراً عن أزمة في النظام الإسلامي قبل أن تصل حملة نابليون إلى بر مصر في صيف عام 1798، وقبل أن تدخل الدولة العثمانية في مواجهة متطاولة وخاسرة مع جيرانها الأوروبيين في روسيا ووسط أوروبا، ثم في عقر دارها. ويرى الدكتور الأفندي أنه لهذا، كان الفكر الإسلامي الحديث يصارع على أكثر من جبهة: فمن جهة، كان المفكرون الإسلاميون غارقين في لجج المعارك القديمة التي اشتعلت منذ أيام صفين وسقيفة بني ساعدة، حين فاجأتهم صاعقة الحداثة ، مثلما كان رصفاؤهم في بيزنطة غارقين في الجدل حول جنس الملائكة، وأولوية البيضة والدجاجة، حين انقضت على مجالسهم جيوش محمد الفاتح. ومن جهة أخرى كان هؤلاء المفكرون يصارعون مطالب إصلاح الواقع المتردي الذي سلطت المواجهة مع الحداثة ضوءاً ساطعاً على عيوبه المركبة. وقد تعرض الفكر الإسلامي لزلزال كبير، بعد أن وضعت الحداثة قسماً كبيراً من مسلماته موضع تساؤل، مما حتم أن يعاد بناؤه من جديد، إذ كانت الأزمة هي مواجهة التحدي المزدوج لإعادة بناء الدولة، وإعادة بناء الفكر المؤسس للدولة في نفس الوقت. هذا، بالإضافة إلى مواجهة إشكالات الغزو الأجنبي، والصراع الداخلي، والانهيارات الاقتصادية، والتحولات الاجتماعية غير المسبوقة.

ويرى عبد الرحمن السالمي، رئيس تحرير مجلة «التسامح» العمانية أن هناك علاقة دائمة الترابط بين تطور الإصلاح والتجديد الديني في الجزيرة العربية والدولة. وهذه السمة هي حالة يمكن للبعض أن يصفها بالتعميمية على العالم الإسلامي بأكمله، وقد خلفت التعميمية تعقيدات أثارت اهتمام المحللين السياسيين والمفكرين الإسلاميين على السواء في تأطير هذه العلاقة كحالة معاصرة بين الدولة والدين في إطار التحليل السياسي الإسلامي المعاصر، أو من زاوية رؤية التقدم الحضاري للإسلام في جانبه السياسي. ولفت السالمي إلى أن ارتباط رؤية الإصلاح بالتعليم الديني، أحدث خلطا لدى كثير من الباحثين والدارسين بين مفهومي الإصلاح والتجديد.

وعن إشكالات الإصلاح الإسلامي في سورية في القرن التاسع عشر، أشار الباحث السوري معتز الخطيب إلى أن الإصلاحيين الشوام واجهوا تحديين اثنين: الأول داخلي، إذ وجدوا الوسط الديني شديد المحافظة، ومكبلاً بقيود كثيرة؛ كما أن الصوفية كانت قد بلغت شأوًا بعيدًا، وانتشرت الطرق حتى أصبح لكل مجموعة من الناس حلقة صوفية، أو حلقات ذات صلة بإحدى الطرق الصوفية الكبرى، وكثُر الشيوخ المتصوفون الذين يسرفون في الكرامات وخوارق العادات، حتى أصبح من شيوخ المتصوفة أمثلة صارخة في الفساد الديني!. أما التحدي الثاني فخارجي، إذ مع نهاية القرن الثامن عشر والبدايات الأولى للقرن التاسع عشر، كان التقدم الأوربي قد أحاط بالعالم الإسلامي برمته، فنشأ التفكير في هذا الإقليم أو ذاك بضرورة الأخذ بالتقنيات الحديثة، والتعرف إلى الأنظمة التي جعلت الدول الأوربية بلدانًا متفوقة على غيرها من بلدان العالم. وهكذا تفتح وعيُ نخبةٍ من العلماء على وعي بالأزمة. ويرى المفكر المصري حسن حنفي أن التيارات الرئيسية الثلاثة التي تكوِّن نهضتنا الحديثة.. الإصلاح الديني، والفكر العلمي العلماني، والفكر السياسي الليبرالي، ووجد أن كل تيار قد حدثت فيه الكبوة. فالإصلاح الديني بدأه الأفغاني بداية جيدة، وحدد مشروعه الإصلاحي تحديدا متفقا مع ظروف عصره، وهو مواجهة الاستعمار في الخارج، ومقاومة التسلط في الداخل. ولكن بعد الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي لمصر، خبا مشروع الإصلاح وهوى إلى النصف على يد محمد عبده، فاصلا الدين عن السياسة (لعن الله ساس ويسوس!)، تاركا الثورة للإعداد لها، وتغيير النظم السياسية لتربية الشعوب، ومواجهة السلطان إلى إصلاح مناهج التعليم والمحاكم الشرعية.

وأوضح حنفي أنه بعد اشتداد الحركة الوطنية في البلاد على أيدي تلاميذ الأفغاني، وفى مقدمتهم مصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول، واندلاع ثورة 1919، خبا المشروع الإصلاحي مرة أخرى عند رشيد رضا، بعد أن رأى مخاطر الوطنية في العلمانية وتقليد الغرب و(التفرنُج)، كما هو الحال في تركيا بعد الثورة الكمالية في 1923. ثم خبا المشروع مرة ثالثة على أيدي الإخوان المسلمين، بالرغم من محاولتهم إعادة الحياة له وإكماله عن طريق تجنيد الجماهير. فبعد مقتل حسن البنا في عام 1949، واضطهاد الجماعة كلها على فترات متتالية في عام 1954، ثم في عام 1965، ولعدم تطوير الحركة الإسلامية وموقفها؛ تحولت إلى حركة سلفية. ومنها خرجت الجماعات الإسلامية المعاصرة، تعبيرا عن ظروف الاضطهاد للحركة الإسلامية المعاصرة. انغلقت على الذات، وعادت التيارات الأخرى، وأصبحت تمثل رد فعل على فشل الأيديولوجيات العلمانية للتحديث، ليبرالية، أو اشتراكية، أو قومية، أو ماركسية. وحول التيار الثالث الذي يمثله الفكر السياسي الليبرالي، أشار حنفي إلى أن هذا التيار بدأه الطهطاوي أيضا بداية جيدة، وذلك بنشر أفكار الحرية والعدالة والمساواة. ووضع موضوعات جديدة للفكر الوطني، مثل التقدم، والدولة، والدستور، والحديث عن الزراعة والصناعة والتعليم من أجل تأسيس الدولة الحديثة. وقد حدد مشروعه في «مناهج الألباب» تحديدا واضحا ودقيقا. وسار الجيل الثاني ممثلا في لطفي السيد مؤكدا على الوطنية المصرية، ولكن ما إنْ أتى الجيل الثالث ممثلا في طه حسين والعقاد، ثم الجيل الرابع ممثلا في جماهير المثقفين الوطنيين من خلال حزب الوفد، حتى خبا المشروع الأول؛ فتحولت الدولة من أداة تكوين إلى أداة قهر، وتحول المفكرون من بناة دول وطنية إلى موظفي أنظمة سياسية. وقامت الثورات العربية الأخيرة، التي بالرغم من إنجازاتها الاجتماعية والسياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي، إلا أنها انتهت بالقضاء على الحريات، ومعاداة الليبرالية، والقضاء على النظم البرلمانية الدستورية الحزبية، حتى أصبح المفكر الحر مرادفا لنزيل السجون!.

وطرح الدكتور محمد الحداد، صاحب كرسي اليونسكو للدراسات المقارنة للأديان، مشروع «اجتهاد جديد» لنهضة عربية ثانية، مؤكداً أن الفكر الديني الإسلامي المعاصر لم يفتأ يطرح قضاياه، منذ القرن التاسع عشر إلى الآن، في قالب سرديّات، لا في قالب مفاهيم. وسرديّة الاجتهاد هي مثال على ذلك، ومضمونها تشبيه الاجتهاد بالباب الذي أغلق في فترة مّا، وتقرّر إعادة فتحه في العصر الحديث. ولقد مرّ أكثر من قرن على نشأة هذه السرديّة في صيغتها الحديثة، وتطوّر الواقع اليومي للمسلمين تطوّرا جذريّا منذ ذلك الحين، لكنّ الوعي الديني السائد لم يُجارِ ذلك التطوّر؛ فقبعت مباحث الاجتهاد الجديد في قضايا جانبية، مثل أحكام الحجاب، والنقاب، واللّحى، بل لم تصل إلى القول الفصل في هذه المسائل بعد طول نقاش، أو أنها حاولت طرق قضايا جديدة، مثل المعاملات المصرفيّة وعقود التأمين والإجهاض والاستنساخ، لكنّها لم تخرج عن المنهج القياسي الموصوف في كتب أصول الفقه، مع أن القياس يفترض وحدة الموضوع بين الفرع والأصل، وهذا أمر قد تغيّر، لاختلاف طبيعة العصر الحديث عن طبيعة العصر الوسيط.

ويقترح الحداد حلولا لإشكالية الإصلاح، مؤكدا أن الاجتهاد لن يكون جهدا مجدّدا، إلا إذا ارتكز على نظريّة جديدة في التأويل، واقتبس من المعارف التأويليّة الحديثة نتائج مباحثها في قضايا اللغة، والوعي، والعلاقة بين الذهني والخارجي، ومناهج التعامل مع النصّ، وغير ذلك.. مشيرا إلى أن الاجتهاد القديم قد قام أيضا على اقتباس مجموعة من المفاهيم والآليات التي كانت متاحة للمعرفة العامّة، ولم تكن مصادرها دينيّة. والاجتهاد الحقيقي هو الذي يأتي نتيجة إصلاح ديني عميق، ففي غياب ذلك.. يرتدّ إلى مجموعة من الحيل الشرعيّة، أو الحيل البلاغيّة. وثمّة فارق بين الاجتهاد، والإصلاح الديني. وحول الحرية في الإسلام، وقضية الردة بين حرية العقيدة والخروج على الجماعة، يرى الباحث عاصم حنفي، أنه لا يوجد هناك شك في أنه لا يمكن فصل قضية الحرية الدينية ـ بصفة خاصة ـ عن مبدأ الحرية بصفة عامة، كما أن الاستبداد بكل صوره ـ دينية كانت، أو سياسية ـ ليس بمعزل عن حالة التردي الحضاري التي وصل إليها العالم الإسلامي، العربي منه على وجه الخصوص؛ ومن ثم فلا غرو أن يطرح جيل الرواد السؤال الجوهري: لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم؟، وهو سؤال يطرحه العقل العربي من زمن ليس بالقليل، ويلخّص المشكلة الحضارية التي مازالت تؤرقه منذ أن أفاق على هدير الحضارة الغربية في بداية التلاقي والتعارف أثناء الاستعمار الغربي. من حينها، والعقل المسلم يسعى جاهدًا لتلمس طريق النهضة والخروج من ظلمات التيه. وقد حمل رواد النهضة على عاتقهم التعاطي مع هذه المشكلة الحضارية، وقدموا محاولات فكرية ومعرفية جادة، وقد مثلت هذه المحاولات حوارًا فكريًا وجدالاً معرفيًا، لم يُستثمر الكثير من كنوزه حتى الآن.

ويؤكد نوزاد صواش، رئيس القسم العربي في أكاديمية العلوم والبحوث، والمشرف العام لمجلة «حراء» في إسطنبول، عن مدارس التجديد والإصلاح في تركيا الحديثة، قائلا: «إنه لا شك في أن العالم اليوم بحاجة ماسة إلى الحوار بين الثقافات والحضارات أكثر من أي وقت مضى، لأن العلوم وتكنولوجيا السلاح بلغت من التقدم مبلغاً يهدد مستقبل المجتمعات الموجودة على سطح الأرض. ولا ينبع هذا التهديد فقط من وجود أسلحة الدمار الشامل، ومن العلاقات بين قوى الحكم، بل إن ظاهرة الحداثة والعولمة تهدد التعددية الثقافية والدينية والاجتماعية والفروق بينها. وبدأت ردود الفعل ضد العولمة تزداد في مختلف أرجاء الدنيا. ولا تعد ردود الفعل هذه شكلا من أشكال المقاومة للحداثة، لأن العولمة بدت وكأنها تهدد ـ وبمقياس واسع ـ الهويات الدينية والقومية والتاريخية والثقافات الاجتماعية للأمم. وهذا ينذر بقدوم نزاعات وصراعات جديدة».

وتربط الدكتورة مريم آيت أحمد علي، رئيسة قسم العقائد والأديان، ورئيسة وحدة الحوار بين الأديان والثقافات بجامعة ابن طفيل بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمغرب، بين الإصلاح، وبين الحاضر والمستقبل، مؤكدة أن ذلك يتطلب قراءات في الخطاب الإسلامي المعاصر حول مسائل العلاقة مع الآخر. وأكدت مريم أن عملية التفاعل مع الآخر الحضاري، لا تعني الذوبان أو الانسلاخ من المدى الثقافي الأصيل، والانتقال أو القفز إلى المدى الثقافي المضاد، المهيمن، المسيطر، الغالب، وإنما التفاعل يعني: أن ما مِن جسم حضاري، إلا وله ركائزه ومقوماته ونقاط قوته، يحاول تعميمها ونشرها في ربوع العالم. لذلك، فالتفاعل لا يعني المماثلة وتقليده في ركائزه وأنماط معيشته، وإنما التفاعل هو عبارة عن حركة داخلية – ديناميكية - تجري في عروق المجتمع والأمة متحفزة للبناء والتطوير، وتمتلك الاستعداد النفسي الكافي لتكوين حالة تثاقُف أو تفاعل مع الجانب الحضاري الآخر.

ويرى الدكتور إحميدة النيفر من تونس، أن الفكر الإصلاحي في المغرب قام بعملية ترويض وتطويع للذهن والمجتمع، اللذين لم يكن لديهما إلا السلفية أو الطرقية مرجعيةً فكرية وسلوكية، كان لا بد من الاختيار بينهما لمواجهة التحدي الأوروبي، وأنه إذا كان الفكر الإصلاحي قد اعتمد على مفهوم الإصلاح القديم، إلاّ أنّه أكسبه بعدا قِيميًّا جديدا، برز ذلك في العناية بقيمة الآخر الذي أضحت له قيمة معيارية، لكنه مع ذلك ظل مترددا بين الإحياء والاعتراف بالآخر. واتجه إلى مقولة (لا يصلح آخر هذه الأمة، إلا بما صلح به أولها)، أي اتخاذه اللحظة الرسالية والراشدة، مقياسا للمجتمع المثالي، هذا مع التماسه لبعض القياسات المنفتحة على الغرب، كالتركيز على قيمة العلم والوعي بالزمن وقيمته، وبدورة التاريخ وتخلف المسلمين عنها. ومن ثم، كان هذا الفكر انتقائيا بشكل توظيفي، سواء في علاقته بالتراث، أو من انفتاحه على إبداعات الغرب، مع المحافظة على الشخصية، واجتناب الذوبان.