تنويع المذاهب في هيئة كبار العلماء السعودية.. خطوة للاستفادة من سعة الفقهاء في التيسير

التشكيلة الجديدة أعادت تدفق منابع التراث الفقهي الإسلامي من جديد

TT

أعادت التشكيلة الجديدة لهيئة كبار العلماء في السعودية، التي ضمت ممثلين عن المدارس السنّية الأربع، تدفق منابع تراث الفقه الإسلامي من جديد، في الوقت الذي تم قراءة هذه الخطوة بأنها خطوة لإشراك جميع المذاهب في تقدير حاجة المجتمع عبر الفتيا القائمة على التوسيع على الناس.

وشرعت هيئة كبار العلماء السعودية في متابعة أعمالها عقب ما طرأ من استحداث لعدد من عضوياتها، أبرزها كان احتضان سقف هيئة كبار العلماء السعودية (اللجنة الدائمة للبحوث والفتوى) ممثلا عن كل مذهب سني شملت الحنفي، والمالكي، والشافعي، إلى جانب المذهب الحنبلي الذي كان أتباعه يشكلون غالبية أعضائه طيلة الفترة الماضية.

وفي ظل الاختلافات في فهم المعاني للنصوص الشرعية الظنية الدلالة ما بين المذاهب السنية، التي يجد فيها كثيرون سببا في ثراء التراث الفقهي الإسلامي، وتنوعا للمدارس الاجتهادية الفكرية التي يجب أن تكون بعيدة عن التعصب والبغضاء، ينتظر أعضاء هيئة كبار العلماء السعودية تحديات عدة، أبرزها النظر في مسألة فوضى الإفتاء، إلى جانب النظر فيما طرأ على المجتمع السعودي من تغيرات اجتماعية وثقافية تتطلب إعادة النظر في بعض الفتاوى الشرعية في ظل احترام ومراعاة للتراث الفقهي.

واعتبر الدكتور محمد العيسى وزير العدل الجديد وأحد أعضاء هيئة كبار العلماء الجدد، في حديث مع «الشرق الأوسط» أن ضم عضوية الهيئة للطيف العلمي الذي يعتمد مصادر واحدة للتلقي، اعتبر أن ذلك «فيه ثراء علمي كبير، له أثره على الحراك الثقافي والاجتماعي على أساس سعة الحاضن الذي طالما استوعب الجميع، وتعامله مع النوازل بمادة أكثر تنوعا بوحدة المصدر». وأكد على أن «هذا الحراك العلمي هو محل ترحيب داخل الهيئة»، فكما يقول إن «غالبية أعضاء الهيئة أكاديميون يدرسون المذاهب الأربعة، ولا يعتمدون إلا القول الراجح بدليله أيا كانت مدرسته».

وأشار العيسى إلى تميز الفقه الإسلامي بمدارس فقهية كشفت بعمقها العلمي عن سعة وعالمية الشريعة الإسلامية، وأوجدت مساحة رحبة لتداول الآراء الفقهية التي تنشد جميعها الحق بدليله.

وأضاف: «إن الطرح العلمي يختلف باختلاف المتغيرات، وعلى هذا قرر أهل العلم تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والعوائد والأحوال، وفق ضوابط معينة لهذا التغير، مع التسليم بأن القاسم المشترك بين المدارس الفقهية في منتهى السعة، والاحترام بينهم متبادل، وتقدير أئمة وتلاميذ كل مدرسة في المستوى اللائق بأدب أهل العلم والإيمان، والعلم رحم بين أهله».

من جانبه أوضح الشيخ الدكتور قيس بن محمد آل الشيخ مبارك الممثل عن المذهب المالكي، أن تباين الآراء الفقهية ما بين المذاهب السنية الأربعة لم يكن سببا للخلاف في يوم من الأيام، مشيرا إلى أن التاريخ خير شاهد على ذلك، فقد عاشت الأمة الإسلامية تاريخها وهي في وئام وتآلف وإخاء رغم تعدد الاجتهادات، بل وصل الأمر بهم إلى مرحلة متطرفة في التسامح لا يرضاها فقهاء المذاهب الأربعة، فقد بلغ ميلهم إلى تأليف القلوب أن جعلوا للمسجد الحرام أربعة أئمة، حنفي ومالكي وشافعي وحنبلي، وقد أنكر هذا الأمر العلماء كما نص عليه الإمام الحطاب وغيره.

وشدد الشيخ مبارك في حديث لـ«الشرق الأوسط» على ضرورة إشاعة ثقافة قبول الرأي الآخر بين عامة الناس (الرأي المعتبر الذي له حظ من النظر، وضوابطه مبسوطة في كتب أصول الفقه)، كما ذكر أن اختلاف الرأي أمر مقبول، بل وحسن، على حد قوله.

وتعتبر مسألة غطاء المرأة لوجهها أحد نماذج التباين الفقهي بين المذاهب السنية الأربعة، وتعليقا على ذلك أفاد الشيخ قيس مبارك أن الخلاف في كشف الوجه معلوم، مشددا: «لا أعلم أن أحدا من العلماء يستبيح أن ينكر قولا معتبرا»، إلا أنه في الوقت ذاته استنكر تعلّق الناس بالرسوم والأشكال، داعيا إلى ضرورة الحرص على توفير حقوق المرأة وتسهيل تحصيلها أعلى المراتب التعليمية وفتح مجالات تثقيفها فكريا واجتماعيا، كما هو الحرص على «كشف وجهها».

بدوره اعتبر عضو هيئة كبار العلماء الشيخ الدكتور يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين والممثل عن المذهب الحنفي أن التشكيلة الجديدة لهيئة كبار العلماء انقضاء لعصر التعصب للمذهب عقب أن شاع الوعي بين العامة، إذ لا يوجد في الوقت الحالي كما ذكر «العصبية المذهبية».

وأشار الشيخ الباحسين إلى أن الأساس في الاجتهاد والإفتاء النظر في النصوص الشرعية، الكتاب والسنة، باعتبارها الأمر الجامع بين كافة الفرق الإسلامية، مشددا على غياب الحرفية المذهبية كما كانت في السابق، حيث إن القول الراجح وما تثبته الأدلة هو ما يتم الأخذ به واعتماده، موضحا أن «ما يصدر من فتاوى واجتهادات فقهية لا تتمسك بفقه المذهب وإنما تخضع لدليل المفتي».

وفيما يتعلق بآلية حل الخلاف بشأن بعض القضايا الشرعية المختلف عليها طوال عقود عديدة، جراء التباين في فهم النصوص الشرعية من القرآن والسنّة، أو نتيجة الاختلاف في استنباط الحكم اجتهادا من نصوص الكتاب أو السنة بالمدلول المحتمل أو بالمفهوم أو بالاقتضاء، قال وزير العدل إن مجلس هيئة كبار العلماء إنما «ينشد الحق بدليله، أيا كان مصدره»، متبنيا بذلك آراء فقهية من كافة المذاهب الأربعة. وأوضح أنه «ليس من ضير في أن يجد المجلس ضالته في أي مذهب، بل ولن يضيق ذرعا في مراجعته لقرار اتخذه، فالحق قديم، وهو رائد الجميع».

ويجد العيسى في اختلاف التنوع سعة ورحمة، موضحا بتواجده منذ زمن، إذ لم يطرأ حديثا، والذي على ضوئه تعددت الآراء والاختيارات الفقهية، إلا أنها لم تخرج في تأسيسها عن مصادر التشريع وقواعد الاستدلال والتخريج المقررة في أصول الفقه.

واستدل العضو العيسى على ما ذكره طلحة بن مصرف، إذ ذكر عنده الاختلاف، قال: لا تقولوا: «الاختلاف»، ولكن قولوا: «السعة». وصنف الأنباري كتابا في الاختلاف، فقال له الإمام أحمد: لا تسمِّه كتاب الاختلاف، ولكن سمِّه كتاب: «السعة». موضحا أنه من بين هذه الاجتهادات تكونت الثروة الفقهية التي ملأت المكتبة الإسلامية بالنفائس، التي طالما لمسها الفرد في كثير من نواحي حياته، فكثيرا «ما ترد النوازل الفقهية، وتجد لها حلا في سعة شريعتنا الإسلامية وسماحتها. وما أساء للشريعة شيء مثلما أساء إليها التعصب والاصطفاف المذهبي».

وأمام ذلك أفاد الشيخ الدكتور يعقوب الباحسين أن اعتماد رأي الأكثرية إنما هو الآلية لحل الخلاف في الرأي والاجتهاد الفقهي، أما في حال عدم اتضاح المسألة فإنه يعتمد تأجيل إصدار الفتوى إلى حين إخضاع القضية لزيادة البحث والدراسة والنظر فيها في دورات مقبلة.

من جهته أوضح عضو هيئة كبار العلماء قيس مبارك ممثل المذهب المالكي، بشأن آلية النظر في القضايا الشرعية والنوازل في ظل التعدد المذهبي في الهيئة العلمية للبحوث والإفتاء، أن «الهيئة إنما تنظر فيما حال إليها من القضايا الشرعية».

وأضاف أن الأصل في الحكم أن يراعى واقع البلاد وأحوال الناس ومصلحة المجتمع، موضحا أن المولى عز وجل لم يضع الأحكام التشريعية لإلحاق المشقة وإنما لتحقيق مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم، مشيرا إلى أن الأصل في المختلفين أن كلا منهم يرى جوانب من الحقيقة قد تفوت عن الآخر، فيكون «التقاؤهم وتحاورهم مصدر تنوير وإثراء، وسببا للوصول إلى الحكم الذي يحقق المصلحة العامة»، على حد قوله.

وفي موضوع آخر نفى الدكتور محمد العيسى عضو هيئة كبار العلماء، أن تكون بلاده تعاني من أزمة غياب العالم المجتهد، موضحا أن أمر الفتوى محكوم بلجنة إفتاء وهيئة كبار علماء، ولديهم من الآلة العلمية في البحث وصولا للحق بدليله ما يؤهلهم لأن يضطلعوا بواجبهم الشرعي على أكمل وجه.

وأشار إلى أن اختلاف التنوع سعة، والمذموم إنما هو اختلاف التضاد واحتكار الصواب، ولا يمنع هذا ـ بحسبه ـ أن يعتقد المفتي أن رأيه هو الصواب فيما يدين الله به. مستدركا: «بل الواجب عليه البحث والتحري حتى يصل إلى هذه القناعة، والتي قد يراجع نفسه فيها لدليل فاته أو دليل أقوى، أو مدرك استدلالي لم يكن في اعتباره».

وفي موضوع استيعاب الفضائيات السعودية للتنوع الفقهي والمدارس الفكرية الاجتهادية عبر برامجها الدينية الخاصة بالإفتاء وغيرها، نفى الشيخ الدكتور قيس المبارك وجود ما يمنع من استضافة كافة المدارس الاجتهادية الفكرية السنّية في الفضائيات السعودية الحكومية منها والخاصة، واستعراض كافة التراث الفقهي من خلالها، منوها إلى أن «الباب مفتوح للجميع»، وأنه موكول إلى إدارة القناة.

واستشهد على ذلك بدعوته من قبل إحدى القنوات السعودية سابقا، مشددا على ضرورة عدم إلزام إحدى الفضائيات بدعوة الجميع، بل يُترك الأمر تبعا لاجتهادها في إدارة سياستها الإعلامية، فإن التنوع في مناهج الفضائيات بحسب المبارك «مطلوب، وهو سبيل التنافس والتسابق على الإبداع»، مستدركا حديثه بمطالبته الفضائيات بضرورة اختيار الكفاءات العالية، وعدم تقييد نفسها بتنوع يجعلها تأتي بـ«الضعفاء».

وأوضح وزير العدل الجديد أن من أقدم على الفتوى من غير تثبت ولا بحث في الأدلة فقد تسبب في إدخال نفسه في النار، إذ رُوي في الأثر: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار»، منوها إلى أن الإفتاء في السعودية له علماؤه، لما يتمتعون به من «الرسوخ في العلم والفهم، والحرص على توخي الحق بدليله».

وأكد على تقبل العلماء في السعودية للآراء الفقهية، بالإضافة إلى تدريس كليات الشريعة في الجامعات السعودية المذاهب الأربعة، حيث «لا تحفل إلا بالدليل»، مشيرا إلى أن أعضاء هيئة كبار العلماء أكاديميون درّسوا الفقه الإسلامي وأصوله على المذاهب الأربعة، وكثيرا ما تختلف الآراء في الهيئة ويحترم كل فريق رأي الآخر ويجلّه، على قاعدة الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ التي يقول فيها: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب».

وفيما يتعلق بمسألة التغرير بالمشايخ عبر برامج الإفتاء في الفضاء المباشر، قال الدكتور محمد العيسى إن بعض المستفتين يرغبون في تفصيل الجواب على مرادهم، بأسلوب الاستدراج، إلا أن المفتي بنباهته يدرك ذلك ويضع الأمور في نصابها الصحيح، مشيرا إلى صعوبة القضاء على هذه الأساليب إلا بتحريك الوازع الديني، والتذكير بخطورة هذا العمل، فضلا عن أهمية تنبه المفتين إليها.

وحول فوضى الإفتاء أفاد الشيخ الدكتور يعقوب الباحسين عضو هيئة كبار العلماء، أنه للعالم القادر على الإفتاء والاجتهاد، إلا أن كثرة المفتين في الآونة الأخيرة تسببت كما ذكر في التشويش والاضطراب، وهو الأمر الذي جعل من الأهمية بمكان ضبطها من خلال جهة رسمية.

وشدد الباحسين على أن التشكيك في الفتاوى الصادرة من قبل جهات رسمية خاصة تقوم على استصدار الفتاوى أمر غير مقبول، حيث إن الاستناد لا يكون سوى من خلال الأدلة الشرعية (الكتاب والسنّة).

وفي شأن غياب المرأة عن المجامع الفقهية ولجان الإفتاء وهيئات كبار العلماء قال وزير العدل السعودي الدكتور محمد العيسى، إن هناك عضوات في هيئة التدريس في العديد من الكليات الشرعية بالمملكة ـ في أقسامها النسائية ـ ممن يحملن أعلى المؤهلات الشرعية، ويدرسن الفقه وأصوله على المذاهب الأربعة، ولهن بحوث علمية أثرين بها المكتبة الإسلامية. وقد كانت عائشة رضي الله عنها تفتي الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بما تحمله من حظها في ميراث النبوة، وحفلت كتب التراجم بالعديد من النساء الفقيهات.

أما بشأن مسألة تمثيل المرأة في الهيئات والمجامع الفقهية فيجد العيسى أن في الأمر ما يحفه الكثير من الاعتبارات المهمة، فضلا عن أن علم الشريعة يفترض أن يكون بمنأى عن أي اعتبار سوى اعتبار الكفاءة العلمية، منوها إلى أنه من غير الصواب أن يقال إن في المجامع الفقهية تمثيلا يراعى فيه الجانب الشخصي، أو الجنس، أو العرق، أو الإقليم، وإذا كان هذا لا يرد في العديد من العلوم النظرية والتطبيقية الأخرى ففي المادة الشرعية من باب أولى، مضيفا أن المرأة قد تدرك بفقهها وعلمها ـ من جانب آخر ـ مناسبة «الابتعاد عن هذه المجامع وسجالاتها»، ما دامت تؤدي رسالتها وتوصل صوتها إليها وهي في دائرتها العلمية.

من جانبه أفاد الشيخ يعقوب الباحسين عضو هيئة كبار العلماء أنه لا مانع شرعي من مشاركة المرأة كعضو في هيئة كبار العلماء، مستدركا عدم وجود حاجة إلى ذلك في الوقت الراهن، وأن الأمر عائد إلى ولي الأمر في تقدير الحاجة إلى ذلك مستقبلا.