مؤذنو البلقان: أدوار مرتفعة.. ورواتب منخفضة

الأبعاد الروحية والثقافية والحضارية للأذان في الإسلام

المؤذّن بكر عبد الغني هوشي يرفع الأذان («الشرق الأوسط»)
TT

لا ينقطع صوت الأذان لحظة واحدة في العالم، وذلك على مدار 24 ساعة، وفقًا لمواقيت الصلاة، فلا يكاد ينقطع في مكان حتى يتواصل في مكان آخر، لا سيما بعد وصول الإسلام إلى جميع أنحاء العالم، بما في ذلك القطب الشمالي والقطب الجنوبي، حيث شهدا في السنوات الأخيرة بناء أول المساجد بهما، وهو ما يكشف عن دَور المؤذّنين في ذلك التواصل الروحي، وهو دور لم يُعطِه أحد حقّه من البحث والدراسة، وتسليط الضوء على أبعاده الروحية والثقافية والحضارية. وفي هذا التحقيق الذي أجرته «الشرق الأوسط»، بعض الحقائق عن المؤذّنين، الذين تتواصل أصواتهم عبر العالم، على مدار الزمن، في أبعاده المختلفة، ولكن في جزء صغير من المعمورة، هو البلقان. يحظى المؤذّنون في البلقان باحترام بالغ من قِبل الأهالي، الذين يحترمون كل مَن له علاقة بالمسجد، حتى من غير رُوّاد المساجد، بل يفتخر الجميع بكون أحد ذويهم إمامًا، أو مؤذّنًا، أو خادمًا في المسجد، أو حاجًّا لبيت الله الحرام، أو كان كذلك قبل وفاته، مهما تباعدت الأزمنة. وقال المؤذّن بكر عبد الغني هوشي (55 عامًا، وله 5 أطفال، 3 بنات وولدان) إنه يعمل مؤذّنًا منذ 20 عامًا، منها 13 عامًا في جامع تشارسيسكا بقلب سراييفو. وكان قد قَدِم مع والده، عبد الغني، من كوسوفو إلى البوسنة، عندما كان عمره عامًا واحدًا. وله 4 إخوة، جميعهم مؤذّنون وحُفّاظ لكتاب الله (تعالى). ويحرص بكر عبد الغني هوشي، على عدم استخدام مكبّرات الصوت، عند رفع الأذان، تأسّيًا بأول مؤذّن في الإسلام، سيدنا بلال بن رباح (رضي الله عنه). ويذكر عبد الغني أن والده كان مؤذّنًا لمدة 70 عامًا في كل من بريزرن بكوسوفو، والبوسنة. وقد بدأ والده (رحمه الله) عمله كمؤذّن منذ أن كان عمره 14 عامًا.

وأكد الحافظ والإمام محمد تشايلاكوفيتش، أن شيخ المؤذّنين عبد الغني والد بكر، كان مشهورًا جدًّا، وكان يؤذّن للصلاة الواحدة في 4 مساجد، بعضها قريب من بعض، وذلك حتى يدرك الجميع الصلاة في أحد المساجد، إذا لم تسعفهم ظروفهم في أول دخول لوقت الفريضة. وفي أثناء أدائه لفريضة الحجّ، وعلى صعيد عرفات، صدع بالأذان؛ فأثار إعجاب كل من سمعه، وتساءل الناس عن المؤذّن، الذي كان ألبانيًّا قادمًا من سراييفو. بكر عبد الغني هوشي، يقوم بعمله كمؤذّن متطوع، منذ عقدين تقريبًا، وقد رفض تلقّي راتب على ذلك، مكتفيًا بما يدرّه عليه محله الصغير جدًّا، الذي يستخدمه كورشة لصنع الحقائب الجلدية وتصليحها في باش تشارشيا. لكنه أكد أن المؤذّنين يتلقون رواتب منخفضة جدًّا، بل هي ليست رواتب، بل أشبه ما تكون بـ «الإكرامية»، وتتراوح بين 40 و50 يورو، بينما في كوسوفو يتلقى المؤذّنون راتبًا لا يقل عن 200 يورو، على حد قوله. وهو راتب قليل أيضًا، نظرًا إلى غلاء المعيشة وارتفاع تكاليف الحياة. ويشعر هوشي بالرضا على وضعه الاجتماعي، حيث يحظى بالاحترام من قِبل الناس: «جماعة المسجد من أفضل الجماعات، يسوسنا الاحترام، ويسود بيننا التفاهم، والأئمة الذين تناوبوا على هذا المسجد كانوا أهل علم وفضل، ولكن شعبيتهم متفاوتة، فعندما كان الشيخ سليمان بوجاري إمامًا لهذا المسجد، كانت الجماعة كبيرة جدًّا، وعندما انتقل إلى جامع آخر (الجامع الأبيض) انتقل الكثير من الروّاد إلى جامعه الجديد». وذكر أن غير المسلمين يستسيغون خطاب الشيخ بوجاري، وبعضهم دخل في الإسلام، لأن له أسلوبًا مميزًا. ويردّد المؤذّن بكر عبد الغني هوشي، مقولة خالدة ومشهورة بين أهل التزكية والرقائق: «إلهي أنت مقصودي، ورضاك هو مطلوبي». وعما إذا صادف في أثناء عمله الطويل أي حادثة جديرة بالذكر، قال: «قبل عدة سنوات، وفي أثناء أدائي لأذان الفجر، وبعد صدعي بالتكبير، سمعت شخصًا ورائي يردّد ما أقول، فبعد قولي الله أكبر يقول الله أكبر، وإذا قلت أشهد أن لا إله إلا الله، يقول أشهد أن لا إله إلا الله، وإذا قلت أشهد أن محمدًا رسول الله، يقول أشهد أن محمدًا رسول الله، حتى أنهيت الأذان، وعندما التفتّ ورائي رأيت رجلاً حافي القدمين، بادرني بالسؤال عما إذا كان قد روّعني، فقلت له: لا، ولكني كدت أسقط من فوق المنارة».

بقي القول إن للحاج بكر ابنًا يُدعَى إيدين، سِنه 18 عامًا، يسعى هو الآخر لأن يكون مؤذّنا. المؤذّن سناهيد إسحاقوفيتش (21 عامًا)، الذي يعمل مؤذّنًا غير متفرغ في مسجد الغازي خسرف بك، قال لـ «الشرق الأوسط» إنه تَولّى مهمّة رفع الأذان في أشهر مساجد البلقان وأقدمها (شُيّد في عام 1537) قبل عام ونصف العام، لكنه لا ينوي أن يمتهن وظيفة مؤذّن، إلا إذا كان ذلك عملاً إضافيًا. وحول المهنة التي يرغب فيها، ذكر سناهيد، الذي يقطن في ضاحية إليجا القريبة من سراييفو (15 كيلومترًا)، ووالده يعمل محاسبًا في شركة غراس للنقل الجماعي المملوكة للحكومة، أنه يريد أن يكون أستاذًا للتربية الإسلامية في أحد المعاهد، ومؤذّنًا، في نفس الوقت، في أحد المساجد القريبة، لأنه يحب الأذان: «حبي ورغبتي في أداء الأذان، ينبعان مما وعد الله به المؤذّنين على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم أطول الناس أعناقًا يوم القيامة، ويُبعثون وهم يؤذّنون، كما ورد في حديثين صحيحين». وعما يحصل عليه من راتب، وهو الطالب في السنة الأولى بكلية الدراسات الإسلامية، قال: «أتلقى مبلغ 300 مارك (150 يورو)، وذلك لأن الجامع يُنفَق عليه من عائدات الأوقاف، عكس مساجد أخرى»، وأشار إلى أنه يواصل حفظ القرآن، ويحفظ حاليًّا ثلاثة أجزاء. وعن الراتب الذي يحتاجه المؤذّن، بحكم القاعدة الاقتصادية الإسلامية «الرجل وبلاؤه والرجل وحاجته» قال: «يحتاج المؤذّن إلى ما لا يقل عن 800 مارك (400 يورو) على الأقل». ومن بين المؤذّنين الذين تَحدثَت إليهم «الشرق الأوسط» عصمت كوراجيتش (74 عامًا)، وكان يعمل خيّاطًا لمدة 40 عامًا. وقد بدأ يعمل كمؤذّن منذ 7 سنوات، وهو سعيد لأنه يصدع بكلمة التوحيد، ويسمعه الآلاف من البشر. وعن الراتب الذي يتلقاه قال: «نحو 300 مارك (150 يورو)، كما أتلقى مثل هذا المبلغ كراتب تقاعد، ولي بنتان وليس لدي أبناء ذكور». بخصوص البعد الثقافي للأذان، قال الحافظ والإمام والباحث في الدراسات الإسلامية محمد تشايلاكوفيتش لـ «الشرق الأوسط»: «يجب أن لا يُنظر إلى الأذان على أنه دعوة إلى الصلاة فحسب، بل هو دعوة إلى التوحيد أيضًا، وشهادة على المستمعين، إنه تذكير للناس بالحقّ، وصدع بكلمة التوحيد» وتابع: «إلى جانب ذلك نرى أن البعد الثقافي والحضاري للأذان، يمثل أحد جوانبه، أول وسيد المؤذّنين، وسيدنا جميعًا، بلال بن رباح، الذي كان رجلاً أسود من الحبشة، وبذلك وضع الإسلام حدًّا فاصلاً للعنصرية، فجميع المسلمين يدركون أن بلال بن رباح، لم يمنعه لون بشرته من أن يتبوأ مقامًا رفيعًا في الدنيا والآخرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم بشّره بالجنة، بل قال له إنه سمع خشخشة نعليه في الجنة، ثم إنه كان أول مؤذّن في الإسلام».

وأضاف: «جميع المؤذّنين في العالم، يفتخرون بذلك الرائد الأسود، الذي تَقلّد مناصب رفيعة في حياته، وعندما عاد من الشام إلى المدينة، بعد التحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، طلب منه المسلمون الأذان، وقد أبكاهم جميعًا، مما يدلّ على أن مناهضة العنصرية والتمييز العنصري كانت ثقافة غرسها القرآن والرسول (صلى الله عليه وسلم)، في أمة الإسلام، قبل التحاقه بالرفيق الأعلى، وسمّاها جاهلية: (ليس منّا من دعا إلى جاهلية)، وقال: (دعوها فإنها نتنة)». ونظرًا إلى الدور الكبير الذي يؤدّيه المؤذّن، ويغفل الكثيرون عن فقه كنهه، يدعو البعض المؤسسات الخيرية، إلى تبنّي مشروعات كفالة مؤذّن، وكفالة إمام، لا سيما في الدول التي لا يجد فيها الأئمة والمؤذّنون ما يكفيهم للمعيشة. كما يطرح البعض اقتراح كفالة أبناء المؤذّنين والأئمة في تلك الدول، ومن بينها دول البلقان، حتى يتمكنوا من مواصلة دراستهم، وتخصيص مساعدات للمحتاجين منهم في المناسبات كرمضان والعيدين، وتأهيل صغار السن منهم لامتهان مهنة أخرى، وتمكينهم من أماكن قريبة من المساجد لمزاولة مهنتهم، لتخفيف الأعباء عنهم، وعن المؤسسات المحلية التي تكفلهم.