المشهد الإسلامي في موريتانيا بعد رحيل العالمين ولد عدود وولد البصيري

تركا تاريخا حافلا من العلاقة المضطربة بالسلطة والتيارات الإسلامية

TT

فجأة رحل رمزان من رموز المشهد الديني في موريتانيا لم يمض وقت طويل على غياب الأول حتى لحق به الثاني، إنهما الشيخ محمد سالم ولد عدود، ثم الإمام بداه ولد البوصيري، ليتركا معا تاريخا حافلا من العلاقة المضطربة بالسلطة والتيارات الإسلامية وإرثا سياسيا اختلف حوله الأتباع والمريدون.

كان الشيخ ولد عدود منارة علمية، سخر حياته لتوجيه الموريتانيين بخطاب إصلاحي معتدل عبر حلقاته الدراسية، وإطلالته في التلفزيون. يمتاز ولد عدود بالذائقة الأدبية الرائقة، وموهبة في الحفظ قلما تأتت لأحد. وقد أظهر ذلك في عدة مناسبات، حيث كان يرتجل الشعر ملطفا الأجواء الأكاديمية الصعبة، كما كان عضوا في مجامع وأكاديميات ومراكز علمية كبيرة أهلته لأن يتبوأ تلك السمعة العالمية الواسعة. ويعد ولد من الشخصيات النادرة التي تعمل في الحقل الإسلامي ولا يعرف لها أي انتماء لحزب سياسي. وفيما انحاز الشيخ ولد عدود للتيارات القومية العربية، وخصوصا التيار الناصري دون أن يفقد تأثيره على جزء كبير من الحقل الديني عبر فتاواه ودروسه في الجامعات الأهلية، فقد ابتعدت عنه تيارات الإسلام السياسي المعارضة للسلطة الحاكمة واستندت إلى زعامة ابن أخته الشيخ الددو الذي جمع بين النهج السلفي وتيار الإخوان المسلمين، وترسخت زعامة هذا الأخير بعد ما دخل في صراع مع نظام الرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد الطايع، الذي اعتقله لعدة أشهر مع جميع رموز التيار الإسلامي. وخلافا للشيخ عدود، فقد ظل الإمام بداه ولد البصيري على مسافة واحدة من جميع مكونات الحقل الديني، محتفظا بمكانته كمفتٍ مثير بين الحين والآخر ضجيجا بسبب خطبه السياسية. وظلت التيارات الإسلامية توظف الإمام وتدفعه إلى الواجهة في نضالها السياسي دون أن تحتويه في هيكلها التنظيمي، إلا أن مرضه الذي طال لعدة سنوات، وعزلته في بلدته الصغيرة بأبيض الماء، حالا دون تأثيره في المشهد السياسي بتشكيلاته وتجلياته الحزبية في السنوات الأخيرة. أما الشيخ بداه ولد البصيري فكان أبا للإفتاء والإمامة ذات الطابع الرسمي في موريتانيا، أسس مسجده الأول بالعاصمة نواكشوط موطن قبيلته في بداية ستينات القرن الماضي، وفرض رؤيته الخاصة في الإفتاء على حكومة موريتانيا الناشئة ودولتها تحت التأسيس آنئذ، وكانت فتاوى الشيخ مركزة على محاربة أنماط الثقافة الغربية القادمة مع الفرنسيين الذين يديرون الشأن العام إلى جانب الرعيل الأول الذي صاحب المختار ولد داداه الرئيس الموريتاني الأول، ظل بداه ولد البصيري يؤم المصلين ويصدر الفتاوى من مسجده البسيط في بنائه حتى تكرمت المملكة العربية السعودية لموريتانيا ببناء مسجد ضخم ذي معمار إسلامي عريق في وسط العاصمة، وأصبح يلقب المسجد السعودي. انتقل بداه إلى هذا المسجد يؤم الناس، ويلقي خطبه في قالب لغوي جذاب، وترتيل قرآني جميل، وكانت خطبه التي تعد مرآة عاكسة للوضع السياسي والاجتماعي في البلد، لا تروق للنظام في بعض الأحيان وربما قادته إلى تباعد بينهما تصل لدرجة القطيعة، ويهدد بداه الحاكم بترك الإمامة والتوجه إلى المملكة العربية السعودية، التي تربطه بها صلات وثيقة كعلاقته بمفتي المملكة السابق الشيخ عبد العزيز بن باز بحكم مكانتهما العلمية والمنصب الذي يتقلدانه. وعندما يرى الحاكم عزم الشيخ على تنفيذ نيته تلطف إليه لثنيه عما أراد. وكما كان بداه ولد البصيري متابعا ممتازا للشأن السياسي والاجتماعي في وطنه، فقد كان مراقبا جيدا للشأن الدولي، تتحدد مواقفه الإسلامية منها في عام 1979 عندما وقعت أحداث حماة في سورية، كانت خطبة الشيخ حادة تجاه النظام السوري، مما حمل الرئيس حافظ الأسد على أن يتقدم باحتجاج رسمي للحكومة الموريتانية على مضمون خطبة الإمام الموريتاني، ولم يتجرأ النظام آنذاك على مساءلة والتحقيق مع الشيخ بداه ولد البصيري، الذي كان يرتكز على مكانة دينية وقبلية يصعب مواجهتها.

وبرحيل الشيخين بما لهما من إرث ثقافي ديني وسياسي فإن الأحزاب المتعددة المنتمية لحقل الإسلام السياسي تتصارع على تبني إرثهما، وهي التي افتقدت زعامات روحية جاذبة تؤمن لها أتباعا كثرا في ساحة مسيسة وذات استقطاب شديد.