قاموس القرآن الكريم بالفرنسية.. حدث فكري مهم

ساهم فيه أكثر من 27 باحثا مسلما وأجنبيا

TT

لأول مرة يصدر باللغة الفرنسية قاموس كامل عن القرآن الكريم. وهو يشكل حدثا فكريا مهما لا يستهان به على الإطلاق. وقد حيّاه العديد من الباحثين والمختصين لحظة صدوره واعتبروه مكسبا للدراسات العربية والإسلامية. وساهم فيه ما لا يقل عن سبعة وعشرين باحثا مسلما وأجنبيا. يقف في طليعتهم المفكر الجزائري الشهير محمد أركون الذي ساهم بخمس مقالات في القاموس العتيد. ونذكر أيضا الدكتور محيي الدين يحيى الأستاذ في دار الحديث الحسنية بالرباط. هذا بالإضافة إلى الدكتور محمد علي أمير معزي الأستاذ في جامعة باريس والمشرف العام على القاموس، والدكتور محمد حسين بنخيرة الأستاذ في جامعة باريس أيضا. وهناك العديد من الباحثين الفرنسيين والأجانب المختصين بالدراسات العربية والإسلامية.

ويحتوي القاموس على أكثر من خمسمائة مادة تشمل معظم الموضوعات الأساسية الوارد ذكرها في القرآن الكريم أو التي تدور حوله. نذكر على سبيل المثال لا الحصر: مادة الحرب والسلام ما هو موقف القرآن منها، أو التسامح والتعصب، أو التجربة الروحية للنبي، أو غار حراء، أو الآيات المحكمات والآيات المتشابهات، أو كلمة حنيف، أو عيسى، أو موسى، أو ثمود، أو عاد، أو هود، أو الإسراء والمعراج، أو الحج، أو الشريعة، أو مريم، أو هارون، أو الخضر، أو يوسف، أو نوح، أو يأجوج ومأجوج، أو مكة، أو غار حراء، أو أهل الكهف، أو أهل الكتاب، أو قابيل وهابيل، أو التفسير الصوفي للقرآن، أو التفسير السني والشيعي، أو جبرائيل الخ.. كل مادة من هذه المواد يكرس لها القاموس عدة صفحات لشرحها وإضاءتها من وجهة نظر تاريخية محضة بالدرجة الأولى.

بمعنى آخر فإن القاموس يشكل أول تفسير تاريخي شمولي للقرآن الكريم باللغة الفرنسية. وحبذا لو يترجم إلى العربية لكي يطلع عليه القارئ العربي أو المسلم ويوسع عقليته قليلا ويفتح نوافذ ذهنه على المعاني الحقيقية للكتاب المؤسس للإسلام. فنحن مللنا من التفاسير التقليدية التي تكرر بعضها البعض ولا تضيف شيئا يذكر. وأصبحنا بحاجة إلى تفاسير حديثة تليق بمكانة القرآن وتشرح لنا مختلف أبعاده الروحية والفكرية والاجتماعية والسياسية والصراعية الخ.. كما ويحتوي القاموس على مواد تتحدث عن الأخلاق في القرآن، وعن فضائل القرآن، وعن مكانة غير المسلمين في القرآن، وعن مخطوطات القرآن، وعن تاريخ العلوم القرآنية، وعن قصص الأنبياء، الخ.. وهو يقدم عن كل موضوع من هذه المواضيع دراسة تاريخية عقلانية دقيقة نحن بأمس الحاجة إليها.

إن هذا القاموس ضروري لفهم القرآن الكريم وعلاقته بالكتب الدينية السابقة له والمحيط الذي ظهر فيه والزمن الذي نزل فيه: أي شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي. كما انه ضروري لفهم الإيمان الإسلامي والفكر الإسلامي والعقلية الإسلامية التي تشكلت لاحقا والمجبولة بالقرآن. هذا بالإضافة إلى فهم التاريخ الإسلامي والأخلاق الإسلامية. انه يقدم صورة موضوعية عن الكتاب المقدس للإسلام لكي يزيل هالة الرعب وسوء التفاهم والكليشيهات الخاطئة التي تشكلت عنه وعن المسلمين في الغرب نتيجة الأحداث المأساوية والعنيفة التي ارتكبت مؤخرا باسم الإسلام والإسلام الصحيح الوسطي المعتدل منها براء. القرآن بريء من هؤلاء الجهلة المتطرفين ولا يحق لهم أن ينتسبوا إليه. القرآن ليس كتاب عنف مجاني على عكس ما أشيع مؤخرا وإنما هو مليء بالرحمة على الناس والعباد إذا ما فهمناه على حقيقته وبشكل عميق لا سطحي سريع. انه مليء بمعاني الصفح والتسامح والغفران. ولكنه يعكس أيضا الصراعات العنيفة التي جرت في زمن النبي. القرآن شكل حضارة عظيمة أشعت على العالم طيلة قرون عديدة كما يبين لنا القاموس الكبير وذلك قبل أن تذبل وتموت نتيجة الدخول في عصر الانحطاط. ولكن المتطرفين يجهلون الفكر الإسلامي والقرآن الكريم كما يبين لنا القاموس ولولا ذلك لما ارتكبوا كل هذه الجرائم والتفجيرات باسم الدين الحنيف. لو أنهم فهموا الإسلام على حقيقته وسماحته وجوهره لما فعلوا ما فعلوه. وبالتالي فالقاموس يساعد على تصحيح الصورة عن الإسلام والمسلمين من خلال تقديم تفسير صحيح وموضوعي عن القرآن الكريم. ولكنه لا يتحاشى المسائل الصعبة والمحرجة التي قد تصدم الوعي الإسلامي التقليدي. فالتحرير الفكري يمر من هنا ولا بد من دفع ثمنه. وثمنه سوف يكون انهيار العديد من اليقينيات الراسخة في الوعي الجماعي منذ مئات السنين والتي ينقضها البحث التاريخي الرصين الذي يقدمه لنا هذا القاموس العتيد.

باختصار شديد: بعد أن نقرأ القاموس نفهم القرآن على حقيقته وبشكل جديد فعلا. بعدئذ نراه بعيون جديدة. وبالتالي فهو يشكل حدثا هاما بالنسبة للثقافة العربية العقلانية الوسطية المستنيرة والمستقبلية إذا ما ترجم الى لغة الضاد. وترجمته سوف تتيح لملايين الطلبة الجامعيين والمثقفين العرب من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق وما بينهما أن يطلعوا عليه ويستفيدوا من كنوزه المعرفية واضاءاته التاريخية المذهلة. ومن الخطأ أن يظل محصورا بين جدران اللغة الفرنسية. فهو موجه للعرب والمسلمين قبل غيرهم لأنه يخص كتابهم المقدس. وهم أولى به من سواهم. وربما تبنته كافة الجامعات العربية كمرجع أساسي للتدريس بعد صدوره مترجما. فهو يلقي بالفعل أضواء ساطعة على القرآن الكريم لأنه يفسره كما قلت من وجهة نظر تاريخية بالدرجة الأولى. وهذا ما ينقصنا بشكل موجع حتى الآن. لدينا كل التفاسير الممكنة للقرآن ما عدا التفسير التاريخي الحقيقي. ولذا فإن هذا القاموس يشكل سابقة بالنسبة للثقافة العربية إذا ما ترجم بشكل صحيح. وعلى أي حال فإن المكتبة العربية أصبحت بحاجة ماسة إلى مثل هذه القواميس والموسوعات العلمية الرصينة.