الغلو في الإعجاز العلمي

د. عائض القرني

TT

جدَّ عندنا في العصر الحاضر (الإعجاز العلمي للقرآن)، وهو جميل بلا غلو ولا تكلف ولا تعسف، ولكن الذي حصل أن بعض المشايخ، تخصصهم في علوم الشريعة من فقه وتفسير وحديث ونحوه، دخلوا في هذا العلم وصاروا مجرد نقَلَة عن أهل التخصص في علوم الدنيا، فيأتون بالآية القرآنية ثم يخبروننا أن السلف الصالح من القرون المفضلة لا يفهمون من الآية إلا الظاهر السهل البسيط، ثم يصيح هذا الشيخ قائلا: ولكن المعنى أدق وأعمق. ثم يأتينا بمعنى للآية كله مجرد ظن واحتمال ووهم، ثم يصفق بيديه ويضرب رأسه متعجبا مذهولا كيف أنه اهتدى لهذا المعنى، وحتى المتخصصين في الإعجاز العلمي حمّلوا القرآن ما لا يحتمل.

والحقيقة أننا نريد فهم السلف الصالح والقرون المفضلة للقرآن، لأنه لو كان تفسيرنا خيرا لسبقونا إليه، فهم الأبر قلوبا والأصفى عقولا والأسلم منهجا والأحسن طريقة، وأعلم أن القرآن فيه كنوز وأسرار ومقاصد عظيمة يكتشفها العلماء في كل عصر، لكن إصرار البعض على أن المعنى المراد ما ذهبوا إليه، فمثلا يقولون في قوله تعالى: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ» أن المقصود بالبرزخ حاجز وهمي بين الماء العذب والمالح، ثم يضحكون ويقولون: ومع ذلك كان يظن السابقون أن البرزخ الحاجز الحسي مادي من الجبال ونحوها بين المياه العذبة والمالحة، مع العلم أن فهم السابقين أجمل وأقرب إلى مدلول الآية، ومثلا يقولون إن المقصود في قوله تعالى: «فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ» أنه أقسم بالمواقع لأن النجوم انطلقت من مواقعها من آلاف السنين، ولكن السلف لم يعرف ذلك، فلهذا جاءت الآية بذكر مواقع النجوم بالقسم بمواقع النجوم وليس بالنجوم، مع العلم أن فهم السلف وتفسيرهم أدق وأعمق مما ذهب إليه المتأخرون، ومثلا يقولون في قوله تعالى: «فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ» أن معنى اهتزت أي تحركت البذرة حركة خفيفة تقاس بجهاز رِختر فتفقس البذرة، والمعنى عند السلف أي ترعرعت بالنبات، ومعنى السلف أبهى وأجمل. وما أدري ما لهم يذهبون إلى المعاني البعيدة ويتركون القريبة، ويعشقون الغامض ويهملون الجلي، ويهيمون بالعويص الصعب ويهجرون السهل الواضح.

إن معجزة إنزال القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم هي أكبر مليون مرة من الإعجاز الذي يذهبون وراءه، وإن خلق الله للقمر أعظم إعجازا من انشقاق القمر، وإن إبداع الله للنجوم أكبر في القدرة من انطلاق النجوم من مواقعها، وإن قدرة الله في إنبات البذور أعظم في الإعجاز من اهتزاز البذرة كما يزعمون، وإن بديع خلق الله للبحر أجل آية من الحاجز الوهمي كما يقولون، يا أهل الإعجاز العلمي إياكم والغلو في الإعجاز والتعسف والتكلف، فآيات الله في الكون، وبديع صنعه في الوجود، وأحرف قدرته في كتاب الكائنات المفتوح، أكبر وأعظم من كل إعجاز تكتشفونه، إن الله في كتابه أمرنا أن نتفكر في خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والأشجار والأنهار، فلماذا تأخذوننا إلى دقائق وهمية لا يستطيع أحدكم أن يقسم بالله أنها المقصودة من الآية؟ إن الذي ملأ قلب أبي بكر وعمر وخالد بن الوليد وبلال بن رباح والشافعي والبخاري وصلاح الدين الأيوبي من الإيمان واليقين إنما هو لمطالعتهم قدرة الواحد الأحد ومشاهدتهم للإعجاز في الأنفس والآفاق، وهذا يكفينا ويشفينا إذا فعلنا فعلهم، أما أن يأخذنا بعض المتخصصين وغيرهم إلى المعامل الكيميائية وأجهزة التحميض والتحليل، وعلب التخدير والقسطرة ليثبتوا لنا عظمة الله وإعجازه في الخلق وبديع صنعه في الكائنات فنقول لهم: «لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ»، وقوله تعالى: «قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»، وقوله تعالى: «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ»، ومثل هؤلاء كمن قيل له: ما الدليل على وجود الناقة؟ فقال: بحنينها من آخر الليل.