حول السلفية.. التحولات والمآلات

د. عبد الله بن فهد اللحيدان

TT

نشرت جريدة «الشرق الأوسط» العدد 11438 والمؤرخ في 23/3/2010 للأستاذ رضوان السيد وهو كاتب ومفكر إسلامي له باع طويل مقالا عن السلفية. وهو موجز لمحاضرة ألقيت في مهرجان الجنادرية ضمن ندوة عن السلفية يوم الأحد 21/3/2010. وما طرحه الأستاذ رضوان السيد أثار في نفسي شجونا كثيرة، ولي تعقيب حول عدد من النقاط التي ذكرها الأستاذ رضوان لعلي أختصرها لاحقا.

لكني أحب أن أبدأ بتعريف السلفية، حيث عرفها الأستاذ رضوان بتيار عقدي إسلامي يهدف إلى تصحيح العقيدة والعبادة وتنقيتهما وتنقية اعتقادات المسلم وممارساته من البدع الموروثة والطارئة.

وليس هناك إشكال حول هذا التعريف ولكني أحب أن أبسط الحديث.. نوعا ما. فمن المعروف أن السلفية مميز بين عدة أمور: العقيدة والعبادة والمعاملات. ففي مسائل العقيدة لا تقبل الاجتهادات إطلاقا لأن هذه المسائل فوق البشري. إن أشهر أئمة السلف هو أحمد بن حنبل، رحمه الله، كان له موقف صارم لا مساومة فيه في مسائل العقيدة. ولما سادت عقيدة المعتزلة التي تنكر الأسماء والصفات عن الذات الإلهية على اعتبار أن الله أرفع من الوجود المادي (فهو العقل الأول المحض الذي لا يحتاج للوجود المادي) حيث توصل المعتزلة إلى ذلك بعد محاورات فلسفية مع علماء ومفكري النصرانية الذين أدخلوا الفكر الفلسفي الإغريقي وتشربوه داخل عقيدتهم الدينية.. السلفيون رفضوا كل ذلك بل رفضوا فكر الأشاعرة.. الذي انبرى للرد على المعتزلة والدفاع عن العقيدة الإسلامية، ولكنه تأثر بالفكر المعتزلي نتيجة محاولة علمائه استخدام الأدلة العقلية لإثبات الصفات الإلهية، وبالتالي اضطروا للتأويل، بينما ظل السلفيون رغم أنهم يدركون ضآلة خلافهم مع الأشاعرة يرفضون كل ذلك.

الناحية الثانية في أمور العبادات حيث لا يقبل السلفيون الاجتهاد العقلي إلا في أضيق الحدود التي تسمح بها النصوص من القرآن والسنة. فالعبادة أمر روحي لا يحق فيه الاجتهاد أو استحداث عبادات وسنن جديدة مثل الدعاء عند قبور الصالحين، فهذه بدعة محرمة تحريما شديدا، لأنها قد تكون ذريعة للشرك، الذي هو أعظم الذنوب، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ» وكذلك عدد من البدع الأخرى مثل الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، والأذكار بطرق معينة وبأعداد معينة لم ترد عن النبي، بل هي اجتهادات لمشايخ تعددت طرقهم، ومصدرهم ليس القرآن والسنة وعمل الصحابة والسلف الصالح بل مصادر هلامية مثل الإلهام والرؤى والأحلام وغيرها.

الناحية الثالثة في المعاملات، حيث يتميز مذهب الإمام أحمد بن حنبل بأنه أكثر المذاهب الإسلامية تحررا. وهذا قد يكون مفاجئا، فالشائع ليس في الغرب فقط بل وفي العالم الإسلامي أيضا أن المذهب الحنبلي هو أشد المذاهب. ولذلك شاع القول لا تكن حنبليا أي لا تكن متشددا. وهذا صحيح في أمور العقيدة والعبادة حيث لا يقبل الحنبلي أو السلفي الحياد عن العقيدة والعبادة كما فهمها وطبقها السلف بلا زيادة وتشدد وبلا نقص وتساهل.

أما في أمور المعاملات، مثل السياسة والإدارة والتجارة والصناعة، فالأصل عن السلف هو الإباحة ما لم يرد نص يحرم ذلك. ولهذا يعود في رأيي انتشار السلفية في العالم الإسلامي إلى القرون المتأخرة.

فالسلفية من الناحية العقائدية أكثر توافقا مع معطيات العلم الحديث، الذي يقوم على الفكر التجريبي والملاحظة والاستنتاج، وهذا غير ممكن في أمور الماورائيات، ولهذا فالعلم الحديث لا يتدخل فيها ويتركها لأنها خارج المجال الذي يعمل فيه. ولاحظنا أن علماء المسلمين فيما يسمى بعصر النهضة وبداية القرن التاسع عشر وبالتحديد منذ غزو نابليون مصر 1799، مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده رحمهما الله ومن قصد أو من غير قصد مهدا لظهور أحد علماء السلف في العصر الحديث، رشيد رضا رحمه الله.

لقد ميز الأستاذ رضوان السيد في مقاله المذكور بين ما سماه السلفية التاريخية والحديثة والجديدة، ولم يوضح الحدود الفاصلة بينها، إلا أنه يبدو لي أنه يقصد أن السلفية التاريخية تتمثل في علماء العصور الوسطى، مثل ابن حنبل وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، والحديثة يقصد بها رشيد رضا، أما الجديدة فقد أوضحها بأنها تلك المنازع التي ظهرت في العقود الثلاثة الأخيرة أي منذ عام 1400هـ الموافق 1979م، ولا أدري أن يضع الأستاذ الشيخ محمد بن الوهاب وعلماء الدولة السعودية الأولى والثانية هل في التاريخية أو في الحديثة، وسنعود لهذا لاحقا.

أما بالنسبة للسلفية الجديدة، فالأستاذ رضوان السيد يعتقد أن لها دورا في هدم البنية الدينية التقليدية من خلال هجومها على عقيدة الأشاعرة.. وكذلك مطالبها بالتخلي عن التقليد المذهبي، وهي لم تكن وحيدة في ذلك، بل شاركها في ذلك الإصلاحيون أو (الليبراليون) الذين رأوا في عقيدة الأشاعرة والتقاليد المذهبية عوائق أمام التقدم المادي لمجتمعاتهم.

ثم يعود الأستاذ رضوان ليوضح أن السلفية نجحت في هدم البنية التقليدية القائمة، ولكن لم يكن لديها القدرة على الحلول محلها، حيث زاحمها الليبراليون وباقي الأشاعرة والمتمسكون بالمذاهب الفقهية التقليدية والنخب الحاكمة، مما أدى بالسلفية للانشقاق ذلك «أن التقليد العقدي والفقهي تداعى وما استطاعت السلفية الحلول محله بل ظلت فريقا ضمن المشهد العام». ورغم أنه.. لم يقل في المقال المنشور آثار انهيار البنية الدينية التقليدية، فإن الاستنتاج الطبيعي أن الأستاذ رضوان يحمل السلفية الجديدة مشكلات الإرهاب التي حدثت في الدول الإسلامية، حيث هدمت البنى القائمة التي كانت تحمي الاستقرار، مما أدى إلى نوع من الفراغ استغله الإرهاب. وإن كنت أتفق معه بشأن تطرف بعض الجماعات السلفية وانشقاقها، لكن ينبغي ألا ننسى أن الليبراليين ساهموا كذلك في تحطيم البنى الدينية التقليدية (الحامية للاستقرار) كما أن هذه البنى الدينية التقليدية كانت تعاني من عدم القدرة على الاجتهاد وتقديم حلول إسلامية لمشكلات العصر، مما جعل الأجيال الجديدة تعزف عنها إلى خيارين إما السلفية المتطرفة وإما الليبرالية المستغربة.

ويعود الأستاذ رضوان السيد ليميز السلفية الموجودة في المملكة، حيث حصل اقتران بين الدولة والدين، فالسلفية المطبقة في المملكة (أو لنقل السلفية الوسطية والصحيحة) تميزت بانضباطية فرضتها الدولة، ولأن هناك علماء مؤثرين ما كانوا يقبلون من أتباعهم الوصول بالافتراق إلى حدوده القصوى. كما أنها ميزت بين الشأن التعبدي والشأن العام القائم على وحدة الجماعة ورعاية مصالحها، مما ساهم في دعم مشروعها الأصلي للاستقامة الدينية والإسهام في إقامة دولة إسلامية يسود فيها الود بين الديني والمصلحي. وإلى هنا أتفق مع الأستاذ رضوان السيد لكنه مضى ليقول إن هذه السلفية ما استطاعت الاحتفاظ بولاء الأجيال الشابة في المملكة فتجاوزتها إلى خيارين إما إلى جماعات الإسلام السياسي مثل «الإخوان المسلمين وحزب التحرير»، وإما إلى جماعات الإسلام الثوري (الإرهاب) وهنا أختلف معه. ورغم أنني أعرف أنه من أكثر الكتاب والمفكرين قربا من الحركات الإسلامية، فإنه يتأثر كما يتأثر الرأي العام بكتابات المفكرين الغربيين المتخصصين في المنطقة، الذين مهما حاولوا الاقتراب من فهم الإسلام إلا أنهم يظلون متأثرين بما كتبه المستشرقون الأوائل عن الإسلام وكذلك آراء وانطباعات شخصية.

إنني أعتقد أن السلفية الصحيحة والمعتدلة ما زالت تتمتع بولاء الأجيال الشابة في المملكة، وقد يكون مثل هذا الزعم بحاجة إلى استطلاعات للرأي وما إلى ذلك، وليس بين يدي استطلاع آني، ويناقش الموضوع بشكل مباشر، ولن أثير ضجر القارئ بذكر أرقام وإحصاءات، ولكني أحيله إلى رسائل الماجستير والدكتوراه، التي أجرت استطلاعات للرأي بين الطلاب السعوديين في الولايات المتحدة (أي أكثر العناصر المحتملة للتأثر بالتيارات الفكرية المختلفة) وأظهرت تمسك الطلاب بالإسلام كما هو مطبق في المملكة، نعم قد يفضل بعضهم شيئا من الانفتاح في بعض الأمور، ولكن ليس على حساب الدين، وعموما أقر بأنني لا أملك دليلا إحصائيا قطعيا، ولكني أعتقد أن موقفي مبني على اعتبارات يفتقدها الأستاذ رضوان السيد.

إن المراقب الخارجي، حتى ولو كان عربيا، يرى بعض الأشياء الإعلامية، ويعتقد أن خلفها أبعادا سياسية، فمن أهم مبادئ السلفية (وهذا ذكره الأستاذ رضوان السيد) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إنه فريضة على كل مسلم، وإن لم يقم به فإثمه عظيم، وإذا لاحظ فرد أو عدة أفراد ملاحظة يعتقد أنها منكر أو قد تؤدي إلى منكر فمن واجبه المبادرة لتغييرها باليد - إذا كان هذا الشيء تحت سلطته في بيته أو مزرعته أو أي نطاق يقع تحت سلطته.. - أو باللسان وهذا هو الغالب.. أو بالقلب وهذا أضعف الإيمان. والعلماء والدعاة والملتزمون لا يرضون أن يكونوا ضعيفي الإيمان بل يريدون أن يثبتوا لله ولأنفسهم أن الوازع الديني لديهم أهم من المصالح الدنيوية، والدولة تعلم ذلك وتتقبل النصح إذا كان محقا أو لا تقبل به إذا كان لديها رأي آخر وتنتهي المسألة عند ذلك. فهذا الإنسان المجتهد قد برئت ذمته أمام الله وأمام نفسه بذلك.

والدولة تثق بالتيار السلفي المحلي وأنه ليس له أي أهداف سياسية (مثل تيارات الإسلام السياسي أو تيارات الجماعات الثورية) ولذلك تتعامل مع مطالبه بأريحية على اعتبار أنها مطالب دينية خالصة لوجه الله. فالفكر السلفي يعتقد أن أي تمرد أو معارضة كما هو في النظم السياسية الحديثة هو مشروع فتنة ويتم استحضار أحداث تاريخية في آثار الخروج على الدين والدنيا، وهذا يساعدنا على فهم تعامل الدولة مع التيار الديني.

والأمثلة في ذلك كثيرة، ومنها أنه منذ فترة حرب تحرير الكويت وحتى منتصف التسعينات الميلادية ظهرت مجموعة من المشايخ والدعاة الشباب الذين يعددون كثيرا من المطالب والإصلاحات الضرورية، وقد تجاوبت الدولة مع بعضها، وبعضها رأت المصلحة في تأخيرها لكن البعض استمر يكرر وبروح أقرب للمناكفة من الحرص على الصالح العام فتعاملت معهم الدولة بحزم وأوقفوا لمدة من الزمن ثم عادوا للعمل، البعض ممن لديهم أهداف سياسية استغل تلك الفترة، فظهر ما يعرف باسم الدفاع عن الحقوق الشرعية، وكان بين من أيدوها الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله، لكن لما تكشفت له الأبعاد السياسية لها تراجع عن دعمها، وهذا يدل على شجاعته رحمه الله، حيث إن البعض قد يرفض التراجع حتى لا يقال إنه خاف، ولكن لم يهمه كلام الناس عندما اتضح له خطر ذلك على الصالح العام للأمة.

ومن ذلك أن الدولة رأت نوعا من القصور في تعليم البنات، وأن كون قطاع تعليم البنات منفصلا عن التعليم أثر سلبا على مخرجات ذلك النظام. فاتخذت الدولة قرارا بأن يكون قطاع تعليم البنات ضمن قطاع التعليم في وزارة واحدة، وهذا لا يعني التعليم المختلط، فهذا شيء لا يفكر فيه أحد في المملكة، ولكن تكون المناهج والخطط ضمن إطار واحد، فخشي كثير من العلماء الدعاة والمتدينين أن يؤدي ذلك في المدى البعيد إلى المحذور. فكثرت تقديم العرائض لولي العهد (الملك حاليا) عبد الله بن عبد العزيز، وبالطبع اتخذت الدولة الإجراءات التي تطمئن هؤلاء، ولكن لا يضر بقرار أهمية تطوير تعليم البنات وتحسين مخرجات ذلك النظام. ولن أدخل في تفاصيل، ولكن من ضمن ما يستحق الذكر أن المسجد المجاور لقصر الملك شهد توافد أفراد وجماعات للمسجد لتقديم عرائضهم للملك، ذلك ما يدل على فهم الملك لتوجهاتهم.. وأن ليس لها أبعاد سياسية... ولا أطيل في ذلك، ولكنني أردت أن أقول إن قيادة هذه البلاد تعرف حدود وتوجهات التيار الديني، وليس مثل ما يكتب من مبالغات في الصحافة الخارجية.

وفي الختام، هل هذا يدل على أنه لا خوف على الاستقرار في المملكة؟ أقول.. لا.. فأخطر الخطر هو عدم الإحساس بالخطر.. ومن نافلة القول التذكير بخطورة الفئة الضالة والإرهابية، فخطرهم محدق، وهم لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة. ولا ننسى التيارات الفكرية المنحرفة والملحدة واستغلالها لثورة الإعلام والإنترنت لغزو أبنائنا، ولا ننسى القوى الإقليمية والدولية التي لا تريد لنا الاستقرار والتقدم.

* وكيل وزارة الشؤون الإسلامية المساعد أستاذ العلوم السياسية بجامعة الملك سعود سابقا