القضاة والنفوس المحصورة

ياسر بن صالح البلوي

TT

إن الحالات النفسية التي تمر علينا في المحاكم في القضايا المعروضة متماهية متداخلة في أعراضها يصعب توصيفها توصيفا دقيقا للمؤتلف والمختلف منها.

إن النفس هي حقيقة أقرب ما تكون إلى التفرد الجزئي تحتاج إلى معرفة مداخلها ومخارجها، والقرب منها أكثر، وملازمتها لأطول وقت ممكن وبتفحص أكثر، وإجراء مزيد من التجارب عليها.

النفوس المحصورة تحتاج إلى تأمل وملاحظة وتدقيق في التصرفات والأقوال والأفعال والحركات والسكنات، تحتاج إلى النظر في الإنتاج وماهية الإنتاج، تحتاج إلى النظر فيمن يوافق هواه لعله يقرب لنا مدخلا من المداخل لهذه الشخصية.

أحتاج إلى أن أنظر إلى المتقاضين؛ ماذا يهتمون أثناء جلوسهم للمحاكمة، وبماذا يعبثون، أجد الخصم الضعيف المبطل يحاول إثارة خصمه المحق ليخرج عن طوره فيأتي بالموبقات في مجلس الحكم ويحاول الضغط عليه ليشتته. ومن فلتات الملاحظات أني وجدت مرة بين يدي شاهد كتابا يتكلم عن شهادة الزور.. وإذا به من أكابر شهود الزور! أجد سكينة وإيمانا وتوبة لا تجاوز اللسان تنتاب مجرما خطيرا ليتقي بها حكما رادعا.

أجد الأم تقترب من طفلها تريد الحكم بالحضانة لها، أجد الزوج يتشوق إلى الاقتراب أكثر من زوجته وهي كذلك بعد افتراق طويل، ولكن بينهما جبلا ضخما يريد منهما أن يبتعدا عن بعض أكثر.. أجد أقاربهما يتوسطان الزوج والزوجة! سبحان الله، أليست القضية زوجية وبين زوجين؟! أليست حلالا له وحلالا لها؟! فلماذا أنتم بينهما؟! ما لكم جعلتموها قبلية وطنية دولية عالمية؟! أجدهم يبادرون بالهجوم على الزوج.. يريدون من الزوجة الاستغراق في اللحظة الراهنة، تذكري، لا تنسي، فعل وسوى، وجمع وفرق. وشتت ورصد وهز هيبة، ولم يأمر بها ولم تسؤه! أخرج الأبوين ليعيش الزوجان، وما هي إلا لحظات ويخرج الزوجان من الباب الآخر للقاعة، يقولان يا ليتها كانت الباقية! وأما الأبوان فينتظرانهما على الباب الآخر لا يعلمان بخروجهما يقولان يا ليتها كانت القاضية.

النفوس تحصر ولكن كيف لنا من تفريغ تلك السدود الضخمة والستور العظيمة التي تقوي هذا الحصار.

علمتني جلسات قليلة في القضاء أن النفوس أشبه ما تكون بالهلام أو الحالة الزئبقية أكبر من أن تحصر في زاوية أو تمسك بأصابع وأن تؤطر في إطار، وأن مبدأ نفس الإنسان هو لسان حال إنسانيته ووجوده وأن إلغاءه من قبل الخصم يعني الشعور بالاحتراب مما يجعله في توجس مستمر وتشكك أمام القادم من هذا الخصم. وهناك عاشق للصدام لا يعرف معنى الوئام.

إن المستغرق في حالته يعجز عن أن يخرج من ذلك الاستغراق إلا باندهاش آخر أعظم منه يوقفه للحظات من الانسياق العاطفي لمشاعر الإحباط والمواجهة.

لم أجد خيرا للتعامل مع هذه الشخصيات المغرقة في الانسياق النفسي والاستغراق إلا التلطف وسماع ما لديهم والسماح لهم بتفريغ الشحنات والإشعار بالحب والإكرام حتى تعود الثقة والأمل والفأل وحب رد الإحسان.

أحتاج أحيانا إلى أن أسمح للزوج أن ينفجر لينفس بكل ما في جعبته فيملأ الجو صراخا ونزقا حتى إذا انتهى قلت له وبكل هدوء: هذا ما لديك؟ قال: نعم.

قلت إذن اسمع ولا تقاطع. وأنت أيتها الزوجة ماذا لديك؟ فتنفجر مكملة فراغات الجو زعيقا وصراخا وبكاء حتى أشعر أن هما انزاح عن قلبيهما. كما يقول المصريون «هم وانزاح»، فإذا بلحظة هدوء وسكينة تخيم على قاعة المحاكمة.

* بعدها

* وإذا بالأطفال يبكون بينهما.. لحظات استغراق في لحظتيهما.. وإذا بلحظة ثالثة شاعرية طفولية فيها براءة الطيور تنتشلهما ليتشاركا معا في الشعور بها.

ما رأيكما؟ الرأي لك فضيلة القاضي. فأقول: إن الحياة تنتظر منكما نسيان الماضي والاستشراف للمستقبل. الأطفال يحتاجون إليكما جميعا لتشعرا بهم.

وما هي إلا دقائق وتخرج الأسرة للحياة من جديد. كم أنا ممنون لهؤلاء الأطفال! لقد حكموا في معضلة قد تمكث شهورا في ردهات المحاكم.

* شكرا لتلك الطيور

* وما أكثر الطيور في الأفق!.. في كل مكان طيور.. أعجب حينا من إصرار أحد الخصوم على مناقضة العالم والحقيقة ومناقضة نفسه حينا، وأعجب ما هذا التشتت وما هذه التناقضات فأتذكر كلمات السباعي عندما يقول: لا تعظ مغلوبا على هواه حتى يعود إليه بعض عقله.

في الدروب والمتاهات.. في دروب الحياة ضيعت نفسي ثم وجدتها في فناء الله.

وفي متاهات الطريق فقدت غايتي ثم ألفيتها في كتاب الله. وفي زحام الموكب ضللت رحلي ثم وجدته عند رسول الله.

هكذا الحياة نبدأ مغمورين ثم نصبح مشهورين ثم نمسي مقبورين، وبعد ذلك إما نكون مسرورين، وإما نكون مقهورين..

كلمات رائعات من السباعي الذي عاش حياته في مواجهات وأعداء واستعمار واستقطابات يتحدث عن حالات الاستغراق التي يمر بها المرء ثم في آخر الجولات والصولات يجد نفسه أمام الله.

يأتي أحد الخصوم من ذوي المكايدات العريضة الذي يعرف كيف يدول قضيته، وسيجد من «يدعوج» له دعوته لتصبح قضية إعلام إثارة بامتياز.

والفائدة العائدة على «الخصم والمدعوج» إما تصفية وإما انتقام وإما اقتسام كعكة.

يقول للطرف الآخر في القضية: هذا عدوي. هذا عدو الوطن. هذا عدو الرب.

بل أنت أيها القاضي.. أنت خصمي. أنت عدوي. «هم العدو فاحذرهم».

فأقول: يا صاحبي لا تطلق لفظ «العدو» إلا على الأجنبي المحارب، أما المواطن الذي تختلف معه فهو«خصم» والعدو لا تنفع معه إلا الشدة، والخصم يفيد معه كثيرا حسن الخلق، والإغضاء عن الإساءة، وترك الفرصة له ليفهمك.

ولكنني قاض لست خصما وليست مصلحتي في خصومتك كما أن مصلحتك عينها ليست في خصومتي، نحني جانبا أو ردني. ولكنني لست خصما.. أنا لك أو عليك.. أو له أو عليه.. حيث الحق فثم ميزاني.

قد نحصر جميعا.. قد يحصر الكل في حالة تـأثرا بالمحيط وضغوطاته.

إن القضاة بالفعل يعالجون تلك النفسيات المحصورة وقد يحصرون معهم أحيانا، وكثيرا ما يبحثون عن عصا موسى أو خاتم سليمان أو تلك الطيور البريئة لفك الحصار.

نعجب من حالات الخصام الشديدة وتخفي خلفها حبا عظيما ومبدأ عظيما ووفاء عجيبا تحتاج إلى يد ماهرة وبإبرة تشبه إبرة خياطي كسوة الكعبة عندما يعالجون خيوط الذهب معالجة رقيقة ليخرجوا لنا أعظم كساء وأبهى كساء يكسى به أشرف بيت على وجه البسيطة. شكرا لك خادم الحرمين على هذا الكساء الشريف لتعظيم البيت ليزداد بهاء وأبهة.

أيها القضاة لنعلم أصحاب النفوس المحصورة معنى الحياة. بل لنعلم أنفسنا قبل ذلك ولنقل عاليا: الدنيا ما زالت تثبت يوما يوما أننا قد نندم على حصر النفوس يوما ما، لأننا سنحتاج إليها يوما ما.

* قاضي محكمة صامطة العام