فقه الحضارة والعمران: الوظائف والغايات

رضوان السيد

TT

انعقدت بمسقط (عمان) الدورة التاسعة من ندوة «تطور العلوم الفقهية» وكان عنوانها: «الفقه الحضاري أو فقه العمران»، وقد امتدت على مدى أربعة أيام، وألقيت فيها زهاء الأربعين محاضرة في المحاور التسعة. وشاركت في الندوة بمحاضرة عن «مصائر المدينة والمدنية الإسلامية»، لكنني رأيت هنا الاستمرار في تأمل هذه المسألة، إسهاما في إثراء النقاش.

وفي الواقع، لا أعرف أحدا قبل ابن خلدون في مقدمته للتاريخ توصل إلى مصطلح للتعبير عن المجتمع الإنساني؛ قال إنه العمران البشري. وقال مرة أخرى إنه العمران الحضري أو الإنساني. وما قصد العلامة ابن خلدون بالحضري ما هو ضد البدوي على ما اعتاد المؤلفون من قبل، بل قال إن الحضر عمران، وإن المدر أو البداوة عمران أيضا. وهكذا فقد قصد من وراء الحضارة والعمران إيضاح أو تسمية نمط معين في الحياة الاجتماعية الإنسانية. وأصل التصور القائل بأن الإنسان مدني أو اجتماعي بالطبع، يوناني يعود إلى أفلاطون وأرسطو. وقد تبناه المسلمون والأوروبيون في العصور الوسطى. وهو يقوم على أن الإنسان الفرد لا يستطيع وحده القيام بحاجاته الأساسية وهي المأكل والملبس والمأوى أو المسكن. فكان لا بد من تلاق من أجل التكامل. لكن لأن كثيرين من الناس لا يكتفون بتحقيق الحاجات الأساسية، بل يسعون لأمرين إضافيين: الكماليات من جهة، والوجاهة والسطوة من جهة ثانية. لذلك كان لا بد من ناموس أو قانون يسلم به الجميع ويحتكمون إليه، ويقوم على إنفاذه رئيس يعدل بين الناس. وكلما كان القانون والقائمون عليه منصفين، وأحاطت بالاجتماع الصغير ظروف ملائمة، نما وتطور، واحتاجت الأنظمة إلى تعديل وتجديد ورعاية. وهنا يختلف أهل الدين مع أهل الفلسفة الطبيعية كما يقال. فأهل الفلسفة الطبيعية، وخلفاؤهم من القائلين بالحق الطبيعي، وبالمدنية العقلانية؛ يرون أن النظم إنما تتطور نتيجة صراعات وحروب وتسام وتقدم عقلي يحصل بالتجارب. وأما أهل الدين فيرون أن السنن الأولى والنواميس إنما جرى التسليم بها لأنها فطرية وإلهية المصدر. كما أن الرواد الأوائل إنما كانوا أنبياء وأصحاب رسالات. وعلى أي حال فإن ابن خلدون يحاول الجمع بين التصورين المدني والديني في قيام المجتمع الإنساني أو العمران البشري وتطوره. وهو يقول إنه إنما يريد فهم القوانين والسنن التي يسير عليها العمران. وهو يسترشد في ذلك بعلماء السياسة والاجتماع والتاريخ.

كان ابن خلدون فقيها مالكيا كبيرا. لكنه عندما أراد فهم تطورات العمران الحضري أو الحضاري، ما ذكر الفقهاء بين الذين ينبغي اللجوء إليهم. ويرجع ذلك من وجهة نظري إلى ثلاثة أمور: لأنه كان يعتبر «علم الفقه» علما معياريا، وهو يقصد إلى العلم الوصفي الذي ينظم المعارف المتنوعة ولا يصنعها أو يدعو إليها. ولأن التجربة الفقهية الإسلامية من جهة ثانية دأبها التركيز على الأمور التعبدية والحسبية، وهي لا تعنى مباشرة بالشأن الإنساني العام. وأخيرا لأن الفقيه بقدر ما هو تعبدي في علمه وتوجيهاته، هو غائي في مقاصده. إذ إنه يقصد الإرشاد إلى سبل النجاة في الدارين؛ بينما يريد ابن خلدون من وراء اكتشاف سنن وقوانين ومسارات المجتمعات الوصول إلى القدرة على استشراف التطورات، وتصحيح السياسات، والتأريخ والاعتبار.

إن موضوع الفقه الحضاري أو فقه العمران إذن هو المجتمع الإنساني وعلى وجه الخصوص المجتمع الإسلامي. والدوافع للعودة إليه، هي نفس دوافع ابن خلدون، وإن اختلفت الوظائف والغايات والأزمنة. فابن خلدون، كما يصرح في مقدمته كان دافعه لتوسيع إطار رؤيته التأزم الذي كان حاصلا في الاجتماع العربي الإسلامي، وفي بنية الدولة بديار الإسلام. ولذلك فقد أراد اكتشاف أسباب هذا التأزم ومآلاته، ووجد أن العلوم الدينية - وهو فقيه مالكي بارز - لا تفيد في ذلك. بل إنه في فصوله المعروفة بالمقدمة عن العلوم الإسلامية، رأى في موجزاته عنها أنها ما عادت مفيدة أو أنها ما كانت مفيدة منذ البداية، مثل علم الكلام! ولذلك فقد يمم وجهه شطر علوم أخرى في الاجتماع والسياسة والتاريخ، فتنقل بينها، واعتبر ما فعله علما جديدا ما سبقه إليه أحد من قبل! وليس من همنا هنا الحكم على إبداع ابن خلدون العلمي، لكن الواقع أن التأزم كان قويا وعميقا في القرنين الثامن والتاسع للهجرة/ الرابع عشر والخامس عشر للميلاد. وهذا التأزم القوي بل الانحطاط الكبير هو الذي لاحظته نخبة من علماء المسلمين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد تصدت له بفقه التمدن أو فقه الحضارة. وقسم القائمون على «العلم الجديد» بحوث فقه التمدن أو التقدم أو الحضارة إلى ثلاثة أقسام؛ القسم الأول يعنى بتحليل أسباب التقدم أو التمدن الأوروبي الذي سطع نوره في الآفاق وسال سيله في الأرض؛ بحسب تعبير الوزير خير الدين التونسي. والقسم الثاني، دراسة أسباب الانحطاط في المجال الإسلامي، الذي أدى إلى التخلف الاقتصادي والاجتماعي والديني، وإلى سيطرة القوى الأوروبية على أكثر ديار الإسلام. أما القسم الثالث فينصرف فيه أصحابه إلى تقديم الرؤى والمقترحات، في إمكانيات وكيفيات النهوض. والفكرة الغالبة لدى مؤلفي فقه الحضارة والتمدن هؤلاء من الطهطاوي والتونسي ورفيق العظم في القرن التاسع عشر، وإلى شكيب أرسلان في ثلاثينات القرن العشرين أنه وبحسب القرآن الكريم؛ فإن لتطور المجتمعات الإنسانية تقدما أو انتكاسا سننا وقوانين، وأن المسلمين الأوائل اتبعوها وأبدعوا فيها فنهضوا وسادوا؛ في حين خالفها المتأخرون فتراجعوا وتأكلتهم الأمم. وإلى هذه الفكرة التأسيسية لفقه الحضارة، أي استكشاف قوانين التقدم والتمدن، أضاف المحدثون والمعاصرون مقولة الاستخلاف القرآنية أيضا لجهتين: لجهة التكليف، ولجهة الاستحقاق.

وقبل الوصول إلى تحديد معالم عامة وكاشفة لفقه الحضارة والعمران، أود التنبيه إلى مسألتين عميقتي التأثير فيما نحن بصدده. المسألة الأولى أن فكرة فقه التمدن مرت بمرحلتين؛ في المرحلة الأولى كان الهاجس الغالب تحقيق التقدم على النمط الأوروبي من أجل بلوغ الندية والصيرورة جزءا معتبرا في حضارة العالم الحديث. في حين سادت بعد منتصف القرن العشرين سوداوية دينية وثقافية وسياسية تجاه الغرب، وتصاعدت الدعوات إلى بناء حضارة ذاتية، إن لم تكن معادية للغرب وعوالمه الحضارية؛ فليست جزءا منها. وقد تراجعت هذه الدعوة أو الدعوات الآن، لكنها شكلت مستندا لعشرات الأبنية التصورية حول التفوق الحضاري والتميز الحضاري والخصوصية الحضارية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. والمسألة الثانية التي أود التنبيه إليها أن عملنا نحن المثقفين المسلمين في مجال فقه الحضارة يقع بالدرجة الأولى بين الثقافي والحضاري. وهذا لا شأن له بما ذهب إليه ابن خلدون من عدم جدوانا! فعلى الرغم من الاختلاف في مفهوم كل من الحضارة والثقافة؛ فإن الغالب اليوم القول بأن الحضارة تشمل البنى المادية لجوانب العيش الإنساني، في حين تعني الثقافة البنى الذهنية، وطرائق التفكير والتصورات للمسائل الكبرى المتعلقة بالقيم أو ما صار يعرف برؤية العالم. وإذا لم يكن عملنا مباشرا في الأغلب في الجوانب المادية؛ فإننا إن كنا نملك أو نتصور لأنفسنا مهمة في فقه العمران؛ فإنها تقع في الجوانب الثقافية والمعنوية وتغيير الذهنيات واجتراح الأفكار والمنافذ للمعارف والإرادات. نحن نعمل أو ينبغي أن نعمل في أصول لاهوت العمران، ولمن لا يحب مفردة «اللاهوت»، نحن نعمل في مجال فلسفة الحضارة، وأصول العمران.

يقوم الفقه الحضاري أو فقه العمران، كما نتصوره، على الأسس التالية:

أولا: المعرفة الواعية والعلمية بالعلوم الإنسانية وعلوم المجتمع. وهي لدى غير المتخصصين معارف عامة ونسبية، كما هو الشأن في علوم الإنسان والمجتمع والتاريخ. ونحن مأمورون بذلك في القرآن الكريم، لجهة السير في الأرض، والنظر في السموات والأرض، والنظر في النفس والآفاق. وهي معرفة هادفة بالأمر الإلهي من أجل «الاعتبار»، ومن أجل «الفقه». والاعتبار يتضمن عمليتين: كشف السنن والقوانين والعادات والأعراف، والاعتبار هو القياس والاتعاظ وتصحيح الفكرة والمسلك. أما معنى الفقه في الأصل فهو الفهم. والفهم هو الشرط الأول لتكوين الأفكار أو الفرضيات والنظريات. وتتناول المعرفة الواعية والعلمية التي تحدثت عنها أمرين اثنين بالتحديد ضمن المواصفات السالفة الذكر:

ـ الأمر الأول: معرفة الديانات والحضارات والمنظومات الثقافية والسياسية الكبرى. وهي معرفة عامة في الأزمنة الماضية، ومعرفة دقيقة بقدر الإمكان في الأزمنة الحاضرة.

ـ والأمر الثاني في الموضوع، وليس في الترتيب: الاطلاع الدقيق على التجربة الدينية والحضارية والثقافية لأمتنا في التاريخ كما في الحاضر.

وإذا كانت العملية المعرفية الأولى يغلب عليها جانب الاعتبار؛ فإن العملية المعرفية الثانية، أي معرفة التجربة التاريخية لأمتنا، يغلب عليها جانب الفقه أو الفهم. بيد أن المعرفة هذه بجانبيها تبقى الأساس الذي لا بديل عنه لفقه الحضارة والعمران.

ثانيا: القول بالاستخلاف والتكليف. فبحسب المقولة القرآنية؛ فإن البشر جميعا أو الإنسان، مستخلفون من الله الخالق لإعمار العالم. ويعتقد المسلم بمقتضى قوله تعالى: « أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ »، أنه مكلف بإعمار العالم في ظل الله وهدايته. وهي فلسفة حسبية للفكر والعمل، تهب المسلم الدافع والإرادة، ليس بمعنى الاحتكار أو السيطرة، بل بمقتضى الأمر الإلهي: «فاستبقوا الخيرات». فمضمون التكليف هو صنع الخير العام، والاندفاع فيه، بالمعنيين: معنى الدعوة ومعنى العمل في شتى المجالات؛ كل بحسب المجال الذي أهل نفسه له.

ثالثا: القول بالدعوة، والقول بالتحاور أو تبادل التجارب. فالدعوة لفقه الحضارة والعمران في الداخل الإسلامي. والعمل على التعارف للوصول إلى قواسم مشتركة قيمية وعملية في المجال العالمي. فعندما يدعو فقيه العمران المسلمين الآخرين لاجتراح عملية حضارية متجددة؛ إنما ينطلق في ذلك من أمرين: إحساسه بالأزمة، وانصرافه للعمل على تجاوزها. وهو عندما ينفتح على العالم بالتحاور والتعلم وتبادل التجارب تحقيقا لعملية التعارف؛ فإنما يعطي ويأخذ ما يفيده ويفيد الآخرين، ويسعى لشراكة قيمية وعملية.

لقد فرضت الأزمة الحضارية المستمرة منذ نحو القرنين على الفقيه المسلم توسيع اهتماماته، وإدخال تغييرات كبيرة عليها. ولا تزال هناك مشكلات كبرى بين الديني والثقافي والحضاري في وعي المسلم وتفكيره وتصرفاته. وعلى سبيل المثال هناك السؤال الكبير الذي اختلفت الإجابات بشأنه: هل الدين في خطر أو أن الأمة في خطر؟ لكن من جهة ثانية: هل يجوز الفصل ين الدين ومعتنقيه؟ أو هل يجوز الفصل - وإلى أي حد - بين الدين والأمة؟

إنها جميعا قضايا وأسئلة ومشكلات، عمل المفكرون والمثقفون والفقهاء الواعون والملتزمون، كما عملت حركات نهضوية وإحيائية على التصدي لها بالإجابة والاستجابة واجتراح الحلول والخيارات للخروج من المأزق. وهذا هو شأن الفقه الحضاري أو فقه العمران في الحاضر والمستقبل. لقد طال التأمل في الأزمة، كما طالت أزمة تشخيصها واستكشاف غمراتها. ويكون علينا الاتجاه بالمعرفة وبالالتزام إلى البناء الذي يدخلنا في عالم العصر، وعصر العالم.