تجريم التمويل الفكري للإرهاب

عيسى الغيث

TT

نشر في هذه الصحيفة ليوم الثلاثـاء الماضي 28 ربيـع الثانـي 1431 هـ الموافق 13 أبريل (نيسان) 2010 بالعدد 11459 خبر صدور قرار مجلس هيئة كبار العلماء في السعودية بحسم واحد من أهم الملفات التي أثارت جدلا واسعا، وذلك بتعريفها لـ«الإرهاب» وصفيا، وتجريم تمويله، فيما اعتبرت أن قرار تجريمها للإرهاب الذي توصلت إليه ينسحب على كل الأعمال الإرهابية التي تتعرض لها دول العالم، وليس السعودية فحسب.

وأشار الخبر إلى أنه بموجب هذا القرار سيكون كل عمل إرهابي يضرب أيا من الأماكن العالمية، هو عمل مرفوض ومُجرَّم، وإن كان القرار الصادر عن الهيئة قد نص على «تجريم تمويل الإرهاب»، وشدد على خطورته، واعتبر الممول «شريكا» في الجرم، إلا أنه يشمل من باب القياس جميع أنواع التمويلات التي تؤدي إلى نفس النتيجة، وهذا القرار «مهم وغير مسبوق» لناحية تجريم الإرهاب، ويدل على «محاربة الإرهاب وتجريمه بكافة أنواعه وصوره بما في ذلك تمويله». وأما تحديد عقوبة محددة لممولي الإرهاب، فهذا مشمول بباب التعزيرات الشرعية، ولعله يصدر به نظام خاص أسوة ببقية الأنظمة التي غطت الكثير من الأفعال الجرمية، لتقرير العقوبة المستحقة على مرتكب فعل التمويل، سواء كان ماليا أو فكريا لاجتماعهما في علة واحدة وهي المساعدة على الفعل الإرهابي، بل إن المحرض والمجيِّش أشد خطورة، حيث لا يصبح الفعل في كثير من الحالات إلا تنفيذا لتلك التموينات الفكرية.

فالتمويل المالي يأتي استجابة للتمويل الفكري الذي يدعو لما يزعمونه جهادا بالمال، والمنفذ عندهم مجاهد بالنفس، وعليه فالمنظّر والمحرّض عندهم هو المجاهد باللسان والبنان، فهي منظومة متكاملة وثالوث أحمر خطير، فالضلع الأول والأساس هو التنظير كممول فكري؛ لأنه المسبب للضلعين التاليين في التمويل المالي والتطبيق الفعلي، فلولا التنظير لما وُجد التمويل والتطبيق، وعلى هذا فالتنظير يبنى عليه بقية الأضلاع التالية، وكما أن المتعاطي للمخدرات أقل خطورة من المروج وكذلك المروج أقل خطورة من المهرب، فكذلك الممول الفكري هو في مقابل المهرب، الذي لولاه لما وجد المروج والمتعاطي. وكما أنه روعي التخفيف على المتعاطين لكونهم ضحايا لمن مولهم بالمخدرات، فكذلك المروج لا يقتل إلا في المرة الثانية، وهذا بخلاف المهرب الذي يقتل من المرة الأولى، وكذلك هنا المنظّر فهو الممول الأساسي للعملية الإرهابية، فالممول المالي يعتمد على فتوى وتنظير الممول الفكري، والمطبق للفعل الإرهابي يدفعه المنظر كذلك.

ومن جهة أخرى، فالتمويل المالي قد يأتي من أي جهة أو فرد هنا وهناك، لكن التمويل الفكري لا يأتي إلا من فئة علمية متخصصة ولو كانت متعالمة، ولذا فمن ناحية الخطورة فهو الأخطر، ومن ناحية الاعتماد فهو الذي يبنى عليه الفعلان التاليان وينطلقان من تنظيره، ومن ناحية العدد فمحدود في فئة معروفة، وعلى ذلك فيجب الاهتمام والتركيز على المنشأ الفكري والمصنع التنظيري من باب أولى؛ لكونه المفرخ لتلك التمويلات المالية والكوادر الإرهابية.

ولو نظرنا لجرائم «استهداف الموارد العامة، والإفساد، وخطف الطائرات، ونسف المباني، والاغتيالات، والتفجيرات، وغيرها» لظهر لنا أن المنظر الفكري هو الذي أجاز هذه الجرائم، بل ودعا إليها وحرض من أجلها وجيّش المراهقين لتنفيذها، فالممول يمكن تغييره بغيره والمنفذ كذلك؛ ولكن لا يمكن قيام أي عملية إرهابية بلا تنظير، لأنها ليست بدواعٍ شخصية ومنطلقات فردية، وإنما بدوافع عقدية وفكرية لا يقوم بها إلا أهلها المتخصصون، وعليه فهم أول المسؤولين بشأنها.

فالممول ينطلق من فتوى المنظّر ويتقرب بعمله هذا إلى الله بزعمه، كما أن المنفذ ينطلق من فتوى المنظر ولسان حاله يقول: «وعجلت إليك ربِّ لترضى».

فالتمويل يشمل الأنواع الثلاثة، التمويل الفكري بالتنظير لمشروعية المراحل التالية من تمويل مالي وبشري، والتمويل المالي يشمل جميع الأدوات والوسائل الموصلة لتحقيق الفعل الجرمي، والتمويل البشري يشمل جميع التجنيد والتدريب والموارد البشرية التي تقوم بتنفيذ تلك الأفعال الجرمية.

كما أن التمويل يشمل كل الصور والوسائل التي بمجموعها تشكل العملية الإرهابية، ويدخل فيها الإيواء والمعاونة بشتى أنواعها والتستر على جميع الثالوث ومناصرته والدفاع عنه والتبرير له، فجميعهم شركاء في الجريمة، من باب قوله تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من آوى محدثا»، وقوله عليه الصلاة والسلام :«من أحدث حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا».

ومن باب سد الذرائع إلى المحرمات، يجب سد ذريعة الفتاوى التي يزعم أصحابها ومناصروها أنها قد فهمت بغير ما أريد لها، مع أن صدور أي فتوى لها دلالة ظرفية مكانية وزمانية وليست درسا علميا نظريا ليس له علاقة بالواقع المعيش، ومن ثم فالزعم بأنها لا تعنى الموجودين في نفس المكان والزمان فهو من باب اللغو والاستغفال الذي قال عن مثله الفاروق رضي الله عنه: «لست بالخب ولا الخب يخدعني»، وقد وقفت على نماذج ممن قاموا بالتكفير والدعوة لتنفيذ مقتضيات الفتوى على فلان من الناس، في حين يزعم المدافعون عن تلك الفتوى بأنها لا تقصد أناسا بأعينهم ولا تشمل ما يرد على الأذهان أنهم هم المقصودون، وعلى هذا فيرد التساؤل لتلك الفئة التي خاب ظننا فيهم واستكثرنا صدور ذلك منهم لنسألهم: هل صدرت هذه الفتوى للقطب الجنوبي أم لعصر لاحق، وأينكم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما». فقال رجل: أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: «تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإنّ ذلك نصره»، فالاصطفافات الحزبية لن تلحق بنا في قبورنا ولن تقف في الدفاع عنا يوم الحساب.

* القاضي بالمحكمة الجزائية بالرياض