تحولات أهل السنة بين الإصلاح والانقسام

رضوان السيد

TT

أثارت مقابلة شيخ الأزهر الجديد على قناة «العربية»، والتي تعرض فيها للسلفية، ردود فعل غاضبة أو معاتبة من جانب السلفيين وأنصارهم. وأحسب أن هذه الواقعة ما كانت الأولى ولن تكون الأخيرة بين التيارين العقديين الكبيرين: الأشعري والسلفي. فمنذ أواسط القرن التاسع عشر، يخوض الطرفان نزاعات جدالية بالغة الشدة في الحجاز والقاهرة وأفريقيا والهند وآسيا الوسطى والمغرب واليمن - وبعد منتصف القرن العشرين في المهاجر العربية والإسلامية أيضا. وقد اتخذت تلك النزاعات عناوين مختلفة في المراحل المختلفة. فمرة يتعلق الأمر بعلم الكلام أو علم أصول الدين، ومرة يتعلق بمشروعية التصوف والطرق الصوفية، ومرة يتعلق بالتاريخ الفكري لأهل السنة أو من هم أهل السنة في الحقيقة - وفي أحيان كثيرة في العقود الأخيرة يتعلق الأمر بالتكفير أو التبديع والتفسيق، والعلائق بالعنف أو الإرهاب. وقد شهدت بالقاهرة في الستينات، الحلقات الأخيرة من نزاع كان قد بدأ في ثلاثينات القرن العشرين وتناول عبر ثلاثة عقود هذه المسائل كلها؛ فأحدث المزيد من الانقسام، وما انقضى أو تراجع إلا على وهج نيران الإحيائيات والأصوليات والجهاديات التي أتت على الأخضر واليابس، فأصابت من الأشعرية مقتلا، وألحقت ألوانا مستجدة من السلفية بالإرهاب! يختلف الأمر لدى المسلمين عنه لدى اليهود والمسيحيين؛ في أن المسلمين لا يملكون - ولله الحمد - قانونا للإيمان، ذا نقاط محددة وتفصيلية من خرج عليه خرج على الإسلام. بل ومنذ القرن الثاني للهجرة كانت هناك ثلاثة جوامع أو أصول وأربعة أركان، الجوامع هي الوحدانية، والنبوات والكتب، والبعث والحساب. والأركان هي الصلاة والصوم والزكاة والحج. وقد انصب الجهد لدى التابعين وتابعيهم على مسائل السنن والمسالك المؤدية إلى انتظام تجربة المسلمين في ظل تلاؤم قضايا العقيدة والعبادة في حياتهم. بيد أن المشكلات أو المسائل المشكلة ظهرت على مرحلتين. في المرحلة الأولى ظهرت - ونتيجة التجربة السياسية - قضيتا: الإيمان ومقتضياته والقدر ومتعلقاته بين الرب والعبد. فما الذي يحصل عندما يكون المرء مؤمنا بالجوامع أو العقائد، لكنه يخل ظاهرا بأحد الأركان أو يرتكب محرما - مثل القتل - بنص القرآن؟ وقد ترتبت هذه المسألة على الخلافات التي جرت بين الصحابة، ووقع فيها القتل وسفك الدم. أما مسألة القدر؛ فيقول مؤرخو علم الكلام إنها ترتبت على احتجاج الأمويين في وصولهم للسلطة بالقضاء والقدر وأنهم إنما تولوا السلطة بقدر من الله، وقد أنكر الحسن البصري عليهم ذلك، وتفرع على هذا الأمر مبحث المسؤولية عن أفعال العباد أو علائق الأقدار بها.

كانت هذه النقاشات ذات الخلفية أو الأصول السياسية محتدمة؛ عندما كانت هناك جماعةٌ من المحدثين بالكوفة ثم في أقطار أخرى تتبلور وتسمي نفسها «أهل السنة»، وفي مطالع القرن الثالث الهجري: «أهل السنة والجماعة». وفي هذه الفترة بالذات طرح المعتزلة بقوة، مسألة المنهج الأصلح لتثبيت العقائد الدينية، وطرائق الاستدلال عليها. وليس من الواضح لماذا طرح المعتزلة المسألة، وهل كان ذلك تحت تأثير نقاشاتهم مع أهل الأديان والعقائد الأخرى غير الإسلامية، أم لأنهم تأثروا مباشرة بإشكاليات اللاهوت المسيحي؟ وعلى أي حال، ومنذ هذه المرحلة (النصف الأول من القرن الثالث الهجري)، ظهر الخلاف داخل أهل السنة. فالإمام أحمد بن حنبل، شيخ الجيل الثاني من أهل السنة - وكما بدا في محنة خلق القرآن - لا يجيز إمكان ابتداع «لاهوت عقلي» للدفاع عن العقائد الإسلامية. وهو مثل الإمام مالك لا يرى الكلام إلا فيما تحته عمل. وقد خالفه في ذلك معاصرون له كانوا يعتبرون أنفسهم من أهل السنة مثل الحارث بن أسد المحاسبي وابن كلاب والقطان. إذ كانوا يقولون بالعقائد السمعية التي يقول بها الإمام أحمد، لكنهم يريدون خوض جدال مع المخالفين بالمناهج الكلامية؛ باعتبار أن هذه «العقائد» معقولةٌ أيضا، ويمكن الدفاع عنها بمنهج قياس الغائب على الشاهد. وهذا الخلاف الذي بدأ في «المنهج» تبلور في القرنين الخامس والسادس للهجرة، أي في زمن الجيل الثالث من الأشاعرة، وليس في زمن أبي الحسن الأشعري (324هـ) الذي نسبت العقيدة إليه. ومنذ القرن الخامس سادت العقيدة الأشعرية، وصارت هي عقيدة أهل السنة، وبنفس مقولات الحنابلة الأولى؛ لكن بالمناهج الكلامية التي ازدادت تفلسفا رغم محاولات الغزالي (505هـ) للخروج من الكلام المتفلسف؛ لكن باتجاه التصوف، الذي لا يقل اشتباها عن الكلام لدى السلفيين! على أن السلفية لقيت تجديدا كبيرا تجاوز مسألتي منهج البحث، والتشبيه، على يد شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قرأ التجربة الفكرية الإسلامية بعامة قراءة نقدية. ومن هذا المنطلق التيمي بدأت السلفية الحديثة في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي في القرن الثامن عشر. وما تساوق الروح النهضوي للسلفية مع أسلوب جديد؛ بل ظلت مسألة تصحيح العقيدة والعبادة هي المسألة الرئيسية، وأضافت إلى خصومها - إلى جانب الكلام الأشعري والصوفية والشيعة - المذاهب الفقهية الإسلامية المتشبثة بالتقليد، والذي أرادت السلفية الحديثة الخروج منه باتجاه المصادر الأصلية والاجتهاد. وما عرفت الأشعرية نهوضا يشبه النهوض السلفي، ولا جددت في مناهجها، ولا قرأت تاريخها الكلامي قراءة نقدية. ولذلك فقد تكاثر خصومها من السلفيين والإصلاحيين وإلى التحديثيين والعلمانيين، ومريدي تفكيك «الأرثوذكسية السنية». وهكذا ففي الوقت الذي كانت فيه «السنية التقليدية» (أي الأشعرية والتصوف والمذاهب الفقهية) تتعرض للهجمات القاسية من جانب كل تيارات الحداثة، وبحق وبدون حق؛ كان الانقسام يتعمق بداخل أهل السنة بين السلفيين والتقليديين والإصلاحيين، والذين انهمكوا في خصومات داخلية قاسية؛ بحيث ظهرت ثلاثة أو أربعة تيارات متنابذة، تملك رؤى مختلفة للتجربة الإسلامية القديمة، ولطرائق مواجهة مشكلات العصر. ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى ضعف أو انقسام المؤسسات التعليمية، ومؤسسات الفتوى، بعد أن انهارت الإجماعات أو الغلبات التاريخية، وما أمكن لإحدى الرؤى المستجدة أن تستعلي وتسود.

لقد انقضى علم الكلام الأشعري والمعتزلي مناهج وموضوعات. كما انقضت الموضوعات والمسائل التي تعتبرها السلفية بدعا وخروجا عن عقائد السلف. وظهر عالمٌ جديدٌ من المسائل والموضوعات والمناهج، يقتضي تفكيرا جديدا تماما، سواء في العقائد، أو في الفقه والأصول. ولا يفيدنا في شيء الدفاع عن الكلام أو الدفاع عن خصومه. وكان المجدد الهندي شبلي النعماني قد تحدث قبل مائة عام عن «علم الكلام الجديد». ومضى الإيرانيون والباكستانيون خطوات باتجاه تحديد معالمه. وقد قام الفقهاء السلفيون والإصلاحيون وأتباع المذاهب، بأعمال جليلة في مجالات متعددة من ضروريات وحاجيات الحياة المعاصرة. وهذان الأمران: التجدد العقدي، والتجديد الفقهي، باتجاه اجتراح رؤية جديدة للإسلام، ورؤية متجددة بالعالم، هما اليوم ضرورةٌ قصوى، وتتجاوزان حتى اعتبارات النوايا الحسنة الداعية للتوحد بأي ثمن.

إن كل الجدال الماضي والحاضر بين السلفية والأشعرية، صار جزءا من التاريخ الفكري للأمة، ويمكن الخوض فيه للنقد والاعتبار، وليس لتبيان العقيدة الصحيحة أو الممارسة الأسلم والأحوط.

إن لدينا الجوامع العقدية، والأركان. وما عدا ذلك أمورٌ - حتى بميزان الماضي المنقضي - كلها قابلةٌ للأخذ والرد والاجتهاد. والذي أراه كما سبق القول - أنها قضايا ومشكلات ما عادت تصلح إلا للدراسة والنقد والمراجعة والاعتبار. ويكون علينا الانصراف إلى المسائل والهموم المستجدة في اجتماعنا الإنساني والفكري والسياسي، أو يصيب الأزهر، ويصيب المؤسسات التعليمية بالسعودية وغيرها، أكثر مما أصابها:

فيا دارها بالخيف إن مزارها قريبٌ ولكن دون ذلك أهوال