هلك المتنطعون..!

عيسى الغيث

TT

بما أن القارئ قد شخص ببصره لهذه الكلمات، وأرخى أذنه لهذه العبارات، فوجب عليّ أن أشبعه حقه بلا تخفيف، وأن أوفي الكيل الفكري والميزان العقلي بنور الكتاب والسنّة بلا تطفيف.

فتلفت يمنة ويسرة، فوجدت موضوعا لا يحتمل التريث، ولا يقبل الإقالة، وهو الحديث عمن يتصفون بأخلاق يدينها الشرع وينكرها الشارع، ألا وهو التنطع والغلو والتشدد، ولذا قال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون»، وهم المتكلفون، حيث يتعمقون ويغالون، ويجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم، فترى الواحد منهم يغلو في عبادته ومعاملته، فيقع في المشقة الزائدة، وربما دعا غيره إليها، وقد يصل به الحد لتسفيه مخالفه، ثم تراه يبتدع في الدين بتحريم ما لم يحرمه الله ورسوله، ويحدث في العبادات ما ليس منها، ويلزم نفسه بما لم يرد في الكتاب والسنة، وحتى في كلامه تجده يتقعر، ويتصنع العبارات، ويتكلف الألفاظ، فيتشدق باللسان، وقد قال الفاروق رضي الله عنه: «إن شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان»، فتجدهم يخوضون فيما لا يعنيهم، ويسألون عما لا ينبغي، ويتكلفون البحث فيما لا يفيد، ولذا قالت عائشة رضي الله عنها: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه»، وقال الشاعر: «وقال يسروا ولا تعسروا/ وبشروا بشري ولا تنفروا».

ومن أجل تجفيف منابع التنطع؛ فلا بد من بحث أسبابه، ودراسة ظاهرته، والسعي في علاجه، وإذا كان العلاج واجبا؛ فإن الوقاية أوجب، فالفكر الضال نجده في البيت والمدرسة، ويستفيد من وسائل التقنية، حيث تفرخ التنطع، وتؤصله، وتبرره، فالعقل وعاء الفكر، وإذا لم يملأ بالوسطية والاعتدال والتسامح؛ ملئ بالتنطع والتشدد والغلو، فأيهما يسبق ينل هذا الوعاء ليملأه ببضاعته.

وأول سبب نعالجه؛ تقويم ضعف البصيرة بحقيقة الدين؛ عبر مناهج التعليم وأساتذته، ووسائل الإعلام وبرامجه، لأن ضعف البضاعة الفقهية والفكرية تُنتج لنا جهالا يتعالمون، ومتعلمين يتجاهلون، فلا تراهم يقرأون؛ فضلا عن أن يتعمقوا، فالأصول الفقهية يجهلونها، والقواعد الكلية لم يسمعوا بها، والمقاصد الشرعية يستخفون بمضامينها، ولذا لا تجد في الغالب أن الجاهل المطلق بالدين هو المتنطع، وإنما أنصاف المتعلمين، الذي يظن صاحبه بأنه قد دخل في زمرة العالِمين، وهو يجهل أساس الشريعة؛ فضلا عن فروعها، فلا يعيد الفروع للأصول، ولا يربط الجزئيات بالكليات، ولا يحاكم الظنيات إلى القطعيات، ولا يفقه من فنون التعارض والترجيح؛ ما يستطيع به أن يجمع بين المختلفات، أو يرجح بين الأدلة والاعتبارات.

ورحم الله الإمام الشاطبي صاحب «الاعتصام»، حيث جعل أول سبب للابتداع والاختلاف المذموم المؤدي إلى التفرق، اعتقاد الإنسان في نفسه أو يُعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد، وهو لم يبلغ تلك الدرجة، فيغتر بذلك، ويعمل به، ثم تراه يهدم الأصول بالفروع، ويسقط الكليات بالجزئيات، ويصادم القطعيات بالظنيات، ويخالف المحكمات بالمتشابهات، ولذا تجده جاهلا بالواقع، فلا يستطيع إنزال النصوص، مع انشغاله بمعارك جانبية عن قضايا المجتمع والوطن والأمة الكبرى، وتراه يسرف في التحريم بلا دليل، بل ويقلب الأصول المسلَّم بها، فإذا قلت له ما دليلك على التحريم؟ رد عليك بسؤال مماثل قائلا وما دليلك على الإباحة؟ وكأننا في هرطقة بين البيضة والدجاجة وأيهما أولا، في حين أن الشريعة قررت أن الأصل هو الإباحة والبراءة والعدم الأصلي، وعليه فمن يحرم هو المطالَب بالدليل وليس العكس، ومن دون تنطع وتكلف وتحريم ما لم يحرمه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا من دلائل عدم الرسوخ في الفقه، فتجده دائما يميل إلى التضييق والتشديد والمبالغة في القول بالتحريم، مع أن تحريم ما لم يحرم لا يقل خطورة عن تحليل ما لم يحلل، والله تعالى قد قال في محكم التنزيل: «وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ» كما تجدهم لم يتلقوا العلم من أهله وشيوخه المتخصصين، فينهلون من كتب لا يدركون معانيها، ولا يملكون أدوات فهمها، مما يجعلهم يسيئون الفهم ويبعدون النجعة، ثم لا يجدون أي غضاضة في أن يوزعوا التهم وصكوك التفسيق والتبديع والتضليل والتنفيق وحتى التكفير واستباحة الدماء بالجملة، ولو قويت بصيرتهم وفقهوا واقعهم وأدركوا حقيقة حياتهم ومسيرة تاريخهم وسنن الكون؛ لعرفوا أن عدم وعيهم هو الذي جعلهم يريدون ما لا يكون، ويطلبون ما لا يوجد، ويتخيلون ما لا يقع، ويفهمون ما لا حقيقة له، ويفسرون ما لا يقين فيه، وبكل وهم ووسوسة، فتجدهم يكثرون الافتراضات دون الحقائق، ويؤثرون العزيمة على الرخصة، والفروع على الأصول، ويكفرون بلا مكفر، وكما قال الشاعر: «والأصل في التضييق ضيق الباع/ في العلم والفهم والاطلاع».

ومن أهم أسباب التنطع؛ البيئة التي يعيشون فيها، والتكوين النفسي والفكري؛ عبر تراكم متوارث في الأسرة، ومتأثر بالمدرسة، والمحاضن المعروفة، وتقنية المعلومات.

وعليه فأؤكد دور علماء الشريعة في الوقاية والعلاج، ولكن أحيانا نجد أن بعضهم إما مشاركا في صف المتنطعين سواء بقناعة أو على استحياء من المريدين، وإما ساكتا صامتا، وهنا لا يخلو من أمرين، فإما أنه مقتنع بالتنطع ولكن خوفه من السياسي قد منعه، وإما أنه يمقت التنطع ولكن خوفه من الغوغاء قد ردعه، ولكن الهداية بألا تراعي إلا الله؛ فتعتقد الحق، وتطبقه في نفسك، وتدعو إليه، مهما أصابك من أذى، وكما قال الفضيل بن عياض: «العمل من أجل الناس شرك، وترك العمل من أجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما».

* القاضي بالمحكمة الجزائية بالرياض