أزمة العلوم الإسلامية في البنية والمنهج والخطاب

رضوان السيد

TT

انعقدت قبل شهر بمدينة أغادير بالمغرب ندوة عن التأزم في العلوم الإسلامية بين التأويل والتنزيل. وقد أقامت تلك الندوة الرابطة المحمدية لعلماء المغرب، وشارك فيها عشرات الباحثين والمناقشين. وكان المقصود بالتنزيل، مناهج الاستنباط في تنزيل الأحكام على الوقائع. أما التأويل فالمقصود به الفهم والتفسير. ودارت معظم المحاضرات حول مناقشة ونقد مناهج العلوم الدينية مثل التفسير والفقه والأصول وعلم الكلام وعلوم الحديث وعلوم العربية. ولست أقصد هنا إلى تلخيص وقائع الندوة الجادة والمتخصصة؛ بل ما قصدته الاستمرار في إثارة النقاش حول هذه المسألة البالغة الجدة والخطورة. ذلك أن التأزم في مجالات علوم التقليد أو علوم برنامج الدرس الإسلامي، أمر لا يمكن إنكاره. وكان المشاركون على وعي بمحاولات الإصلاح والتجديد في سائر تلك العلوم في المناهج والموضوعات. لكن تلك المحاولات على تفاوتها عمقا وجدة ما حلت الأزمة، وذلك لستة أسباب: طول سيطرة المناهج الموروثة في سائر العلوم الإسلامية لنحو عشرة قرون بحيث صارت في الوعي السائد جزءا من الدين، وصار التجديد المطلوب في مناهج الرؤية لاختلاف الأعصار والتحديات، يعتبر مساسا بالدين، ويواجه بمقاومة كبيرة باعتباره خروجا على المألوف. والسبب الثاني: التراث الهائل الذي خلفه الأقدمون في كل علم؛ بحيث استعصى على القراءات النقدية الشاملة، وأثار ويثير بين المتخصصين إحساسا بالقصور، وعدم القدرة على الاستيعاب مقدمة للمراجعة والنقد. والسبب الثالث: اختلال الانتظام الكلاسيكي الذي كان سائدا في المرجعيات والمؤسسات التعليمية؛ وهو جزء من الاختلال الحاصل بين الديني والمدني في المؤسسات والتخصصات. والسبب الرابع: تصدر المستشرقين وعلماء الدراسات الإسلامية من الغربيين في عدة مجالات نظرية وتطبيقية؛ بحيث صارت دراساتهم ومناهجهم التأريخية والنقدية نموذجا يصعب التشكيك فيه أو الخروج عليه. والسبب الخامس: ظهور حركات إسلامية ذات أبعاد جماهيرية، أقبلت على تسييس علوم التقليد واستخدامها في مشروعاتها العامة تحت اسم التجديد أو الاجتهاد. والسبب السادس: ظهور حاجات ومطالب ملحاحة، أفضت إلى سيطرة المسائل العملية، والتهيب من الإشكاليات النظرية؛ بل والمسارعة إلى اتهامها.

ولست أريد هنا استيفاء الأسباب أو العلل جميعا، فقد تكون بعض العوامل التي ذكرتها متفرعة عن عوامل تأسيسية. لكنني أمثل للتأزم النظري والمنهجي في الرؤية أو الفكرة وفي التطبيق، بسيطرة إشكالية أو قضية العقل والنقل في علم الكلام وفي الأصول، وسيطرة المنهج القياسي والشكلانية المنطقية في أصول الفقه وقواعد فقه الفروع، والبناء المنطقي في علوم الكلام، والتأويل اللغوي في التفسير وعلوم القرآن، والذوقية البحتة في التصوف. وعلى سبيل المثال أيضا، فإن جزءا كبيرا من البحوث الكلامية قام على علم الطبيعة الأرسطي في قضية الجوهر والعرض، وعلى علم الفلك الكلاسيكي في مسائل الزمان والمكان. أما علوم الحديث فتحولت في ذروة تطورها في المرحلة الكلاسيكية إلى علوم تصنيفية.

وقد أدرك العلماء الكبار، وفي وقت مبكر نسبيا، أن العلوم الإسلامية صارت مناهجها وبرامجها وإشكالياتها قيدا على تطورها. أدرك ذلك على سبيل المثال إمام الحرمين الجويني في أصول الفقه، وفي السياسة الشرعية أو الأحكام السلطانية. وأدرك ذلك ابن عقيل الحنبلي في أصول الفقه وأدلة التشريع. وأدرك ذلك ابن تيمية في مسألة العقل والنقل، واجتراح علم كلام عقلي. وأدرك ذلك عز الدين بن عبد السلام والقرافي والشاطبي في علائق الأصول بفقه المقاصد والمصالح. لكن هؤلاء جميعا ما استطاعوا زحزحة تلك المقولات، لاستنادها إلى الشكلانيات اللغوية والمنطقية، كما لم يستطع ابن خلدون زحزحة المقولات الكلامية، فتحول نقده إلى غضب عندما قال إنه علم غير مفيد! إن هذه الصعوبات التي أقلقت المتميزين في الأزمنة القديمة، شهدت مثائل مضاعفة لها في الأزمنة الحديثة؛ وكانت الكلمة المفتاحية للتعبير عن التأزم هي: الخروج على التقليد، وفتح باب الاجتهاد. ومر ذلك بمرحلتين: إبطال الحجج القائلة بإبقاء القديم على قدمه، ثم محاولة توسيع الدائرة بربط القواعد الأصولية واللغوية بمقاصد الشريعة. ثم أدت الحاجات العلمية إلى المضي في فقه الفروع وفتاويه وتفريعاته، والمراوحة بين القواعد الفقهية ذات الطابع القياسي والأخرى المقاصدية.

وما جرى في الفقه والأصول وعليهما، جرى أكثر منه في مجال علم الكلام. فقد ضربت الإصلاحية والسلفية «علم الكلام» ضربات قاسية، وكان ذلك مبررا إلى حد بعيد. لكن ذلك أفضى إلى إهمال البحوث النظرية في الدين إما تجنبا للجدل في العقائد أو لأن الحاجات العملية لا تتطلبه أو لا تحتاج إليه. والذين أدركوا ذلك أقبلوا على ما سموه «علم الكلام الجديد»، وهم يعنون به الموضوعات والإشكاليات التي طرحتها الأزمنة الحديثة. وما وصل «العلم الجديد» هذا إلى مآل، لأنه ما استطاع الحصول على «تأصيل» له، كما لم يستطع إقناع المختصين بالإقبال عليه. والطريف أن «التأصيل» ما كان أو ما صار هما رئيسيا لدى الفقهاء والمتكلمين المسلمين المحدثين وحسب؛ بل كان أيضا هما رئيسيا في زمان النهوض الأوروبي في مجال العلوم العقلية. فقد كان أرسطو مرجعية لا تتزعزع لدى أوروبيي العصور الوسطى، كما كان لدى المسلمين. وعندما أراد النهضويون التجديد، والخروج على «التقليد»، واجههم تحدي المرجعية هذا، مما اضطر فرنسيس بيكون لتسمية منطقه غير الصوري: العلم الجديد أو الأورغانون الجديد.

إن السبب المباشر الذي دعاني إلى إثارة موضوع مؤتمر أغادير عن أزمة العلوم الإسلامية من جديد، مقابلة على إحدى الفضائيات مع أحد العاملين على تجديد علم التفسير القرآني. قال الرجل إنه يعتمد «التأصيل» في تجديد مناهج التفسير. والتأصيل عنده يعني العودة المباشرة إلى النص القرآني من دون توسيط أي من المفسرين القدامى أو المحدثين. وتبدو هذه الدعوى مسوغة من الناحية النظرية، لكنه عندما يبدأ باجتراح التأويلات «الجديدة»، والتي لا تتقيد بالأصول اللغوية أو الاصطلاحية للمفردات؛ يشعر المستمع أن المفسر الجديد عابث عبثا أفظع من عبث فتاوى الدعاة الجدد. ولا يرجع ذلك إلى أن الرجل يتجاهل قواعد التفسير التقليدية أو المتعارف عليها؛ بل لأنه لا يتقيد بأية قواعد، ولا يحدد للمستمع والقارئ لكتبه أي منهج يمكن تتبعه فيه أو نقده. وهنا يتجاوز الأمر كون الرجل غير مختص باللغة أو بعلوم الدين، إلى شسوع أزمة علم التفسير بالتجديد. فلا شك أن علم التفسير القديم يحتاج إلى مراجعات نقدية جذرية، لأن الأدوات اللغوية والمعرفية التي قام عليها لم تعد قائمة؛ لكن أين هو «الأورغانون الجديد» الذي أنتجه العلماء أو حاولوا استحداثه لتأمل النص القرآني؟! فوكد هذا الرجل ظاهرا - بغض النظر عن مقاصده - إنجاز رؤية جديدة للنص القرآني، لكن البدائل الجديدة أو الخيارات المستحدثة، تحتاج أيضا إلى فرضيات جديدة، لا تبدو حاضرة، كما لا تحضر أية قواعد أو رؤى لفتاوى الدعاة الجدد. وعلى فظاعة ما يقوم به الجدد هؤلاء؛ فإن التقادم ومضي الزمان يظل علة علم التفسير، كما أن التحليق العشوائي يظل علة التفاسير أو التفسيرات الجديدة.

طلق أعرابي امرأته فصرخت به قائلة: أتطلقني بعد طول العشرة؟! فأجابها: والله ما لك ذنب غيره!