مدينة العدل الفاضلة.. السباق العدلي

ياسر صالح البلوي

TT

مدينة العدل الفاضلة، مفاجأة الأجيال السعودية، سيكون مقرها الرئيسي المقترح بالمدن الاقتصادية وبالمدن الرئيسية بالمملكة، لأن المدينة الاقتصادية لن تعيش إلا بقلبها النابض، مدينة العدل، بشارع زيرو، الذي سيطل عليه قصر العدل. لدور أكبر للمؤسسة العدلية في الاستراتيجية الاستثمارية والحماية الاقتصادية والحقوقية في المملكة العربية السعودية.

ونحن نحاول إثراء الساحة العدلية السعودية بهذه المشاركات المتواضعة نتمنى أن تثير ميدان الأفكار لمزيد من الجهد الفكري المرافق مع نقلة مشروع خادم الحرمين الشريفين لتطوير مرفق القضاء. فلم تردنا دعاوى التزلف أن نقول للمحسن أحسنت، ولم تردنا دعاوى عدم الاحترام اللائق لمسؤولينا أو أننا من غير المفيد مناقشة الخصوصيات علانية أن نقول وجهة نظر ومطارحة فكر لما يلامس حياتنا ونراها ملحة ومفيدة غير ملزمة لأحد، فإما أخذا بإحسان أو تركا بإحسان أو الرمي بها عرض الحائط إن كان الأمر لا يعنيني.

الدكتور صالح بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى، ووزير العدل الدكتور محمد العيسى، ورئيس ديوان المظالم الدكتور إبراهيم الحقيل، عرفوا بعقليتهم العالية وبعمليتهم الاستيعابية وبمفاهيم الإدارة الحديثة التي يسعون جاهدين لإدخالها للمؤسسة العدلية وطموحاتهم العالية لمواجهة التحديات الضخمة، وهم أمام تحد كبير في التأسيس للمرحلة القادمة التي ستتضخم المظلة العدلية لتشمل جميع المناحي العدلية والحمائية والتوثيقية في المملكة العربية السعودية.

وسنجد أن العدل سيظهر بجلاء أنه ركيزة أساسية في استقرار الاقتصاد وحماية رؤوس الأموال وسنجد أن العدل في خلال سنوات معدودة يحتاجه ثلاثون مليون إنسان بخدمات تلامس واقع معيشتهم اليومية، بل كل ثواني حياتهم ستكون مبرمجة مع ميزان العدل. وسنجد كثيرا من الجهات الحكومية والخاصة تطلب تدخل العدل لحفظ التوازن مع العناصر الأخرى في الوطن.

وسنجد أنفسنا أمام ثورة تشريعية وتنظيمية تتطلب جهدا أكبر وعملا أكثر من الجهات العدلية، وسنجد أن الدنيا بالمملكة ستتوقف إن لم يكن هناك محطة كهربائية للطوارئ في وزارة العدل. هذا هو الواقع الحقيقي لواحدة من أهم الوزارات السيادية في بلدان العالم المتقدم.

مع كامل تقديرنا لجهود السابقين وسابقتهم في خدمة أوطانهم عبر مؤسساتنا العدلية والتي قد كانت تستطيع سد الحاجة المتواضعة لعدد لا يتجاوز 700 قاض في المملكة.

المؤسسة العدلية كغيرها من الأجهزة الحكومية التي بدأت بالانعتاق من طريقة نظارة الحقانية ومن ركام الركام من الأعمال المتراكمة والروتين الممل ونماذج الأوراق المهلهلة وعلى طريقة ضبوط الدفتردار، والتي ستحتاج لسنوات لنقل الأرشيف البيروقراطي للمتحف الوطني ولإعداد مسابقة بين أكثر النماذج العدلية حصولا على التوقيعات الهرمية والتي في نهاية الهرم تنسى من وضعها في الفرامة فتهمل بين ركام الأوراق ثم في نهاية العام تحال للأرشيف حسب المتبع.

إن مجلس القضاء يعيش الآن بحبوحة تنظيمية هائلة وتشكلا للإدارات حلت كثيرا من مظاهر الاختناق بسبب المركزية، أصبحت الاجتهادات الإدارية الذاتية محكومة بلوائح واضحة تقلل تفسيرات الاجتهاد الفردي للشؤون القضائية المتضخمة.

ووزارة العدل قد بدأت بالانتعاش مع صلاحيات لم تخطر ببال أي إداري في فروع العدل والتي فوضها الوزير للفروع في المناطق. ولدى الوزارة المزيد وهناك عهد قطعه الوزير بإراحة القضاة من الأعمال الإدارية التي أثقلت كاهلهم وأن العد التنازلي للبداية الفعلية لمشروع خادم الحرمين لتطوير مرفق القضاء بعد إقرار الأنظمة القضائية الإجرائية من قبل المقام السامي بدأ، وأنه في الأيام القادمة ستكون ثورة رقمية لمحاكم افتراضية إلكترونية تستطيع إيداع مذكراتك القضائية من جزيرة جنوب فرسان لقضيتك المرفوعة في رفحاء وتطبيقات العصر التكنولوجي بالمنصة الذكية لحلول عملية ذكية في إدارة الجلسات القضائية، والمبشرات تتقدم الخميس الذي يعمل بهدوء وببطء ولكنه بلا شك أكيد المفعول «على نظرية الإنجليز»، فإرثها ضخم وحملها كبير إنها تلامس حياة كل مواطن وأمامها تحديات ضخمة في البنى التحتية وتوفير البيئة العدلية اللائقة بسمعة المملكة وبما يحقق طموح خادم الحرمين الشريفين. ويظهر أن وزيرنا يحب العمل بصمت.

وأما ديوان المظالم فإنه يطبق نظرية الصدمة والتحفيز والنظرية الحديثة في الإدارة العدلية المثير للغبطة والتسابق بالخيرات «السرعة المدروسة على الطريقة الأميركية» فقد سبق القوم في المؤسسة العدلية في تحقيق الإنجازات. ودعوني أحاول تثبيط تسارعهم المثير للإعجاب بغبطة بيضاء بقولي: لعل خفة الحمل على رئيس ديوان المظالم والدورات التخصصية التي قد حظي بها منسوبو القضاء الإداري في الإدارة المتخصصة واللغات الحية والابتعاثات والمؤتمرات الخارجية وورش العمل التجريبية والتنظيرية وروح الفريق الواحد الذي سرى في ديوان المظالم قد جعلت فرس الرهان يسبق بقية الأركان العدلية بالمملكة بينما بقى ملف كبير وضخم يعالج لدى أساطين القضاء الإداري نتمنى أن ينعتق لوجه الله. وكلنا شوق بالمفاجآت التي خبئت من خبراء المؤسسة العدلية لإصلاح الشؤون الوظيفية لمنسوبي العدل أسوة ببقية المصالح الحكومية.

مجلس القضاء نعيش معه هذه الأيام شهر عسل وننظر له بعين الرضا وبحبوحة شفافية غير مسبوقة وتشارك في وجهات النظر وورش عمل حقيقة أصبحت فرصة حضارية للرقي الجماعي وروح الفريق الواحد غير أننا نحك رؤسنا عجبا من بعض الاستحقاقات التاريخية لعل هناك نظرية اقتصادية جديدة مفيدة على المدى البعيد ومع ذلك نشعر بارتياح كبير لجهد المجلس العظيم ونشعر بالفعل أنه يمثل طموحات القضاة في رؤية قضائهم الأقدر على التحدي.

لقد قام كل من مجلس القضاء ووزارة العدل بأعمال تشاورية رائعة تستحق الإشادة أخرت القرارات ولكنها بلاشك كانت مرضية ومتطلعة لآمال القضاة.. ولكن أظن أن هذه الطريقة شديدة الوطء وتورث الغصص على الإدارات لتقبل وجهات النظر المتناقضة مما جعل من المحبذ للقضاة أن يكون لهم الله وأن يعشقوا نظرية «يقضى الأمر حين تغيب تيم.. ولا يستأمرون وهم شهودٌ» ومن الرائع أن يستغربوا لبعض القرارات الإدارية والتي أصبحت أقوى حصانة وأمنع من الأحكام القضائية ولا يمكن بحال أن تخضع للتمييز.

قد نقول إن ضرورة القيادة الإدارية تقتضي في بعض الأحوال الاستئثار بالقرارات المصيرية وتقديرها سلطة تقديرية لانعلم حدود سقفها.

ولكن هناك من القرارات والتي على تماس كبير مع الجميع والميدان يستحيل معها توليفا مبضعيا فكان من المتحتم أن تخضع لفرصة من الاستطلاعات المدروسة والاستبيانات الدقيقة والتي سترسم لأصحاب القرار الرؤية الواضحة لاتخاذ أخصر الطرق للوصول للهدف.

ومع هذا يسعدنا حقيقة هذا العمل الرائع الذي يقوم به قاداتنا العدليون الشرعيون ولا ننسى ما يقوم به أمين مجلس القضاء الدكتور عبد الله اليحيى من جهود ضخمة وكلنا ثقة بهم ونعرف أنهم يطبقون الحب الإيماني وأنهم يحبون للوطن أكثر مما يحبونه لأنفسهم، حقيقة هذا ما يسلي خواطرنا ويستحقون منا كل تقدير وكل دعاء في ظهر الغيب.

ونأمل أن يكون هذا الثناء الخفيف محفزا لتقبل النقد اللطيف، فبلا شك انسداد فرص الاستماع الخاص سيكون له فرص إباحية في أرض الله الواسعة تجعل الصوت يسمع ويستحق التفكير. ومن اليقيني أن الأفكار الاستشرافية الصحافية تكون مثيرة أكثر من معروض طويل قد يمل متخذ القرار من قراءة طلاسمه بالكامل.

المؤسسة العدلية لديها التحديات الضخمة من القضاء المتخصص وتنمية القدرات واستقطاب الخبرات والإصلاح الإداري وفي الاستحواذ بمظلتها العدلية على لجان شبه إدارية وتنمية البيئة العدلية لتليق بسمعة المملكة لتوفير العدل للمواطنين، إن هذه التحديات المرهقة بمعنى الكلمة، والتي لا تتوقف على جعجعة بلا طحن أو تصريحات فارغة، وإنما بسلسلة من الأعمال تتحرك في كل اتجاه.

لجان ناهزت السبعين لجنة تمارس أعمالا شبه قضائية تحتاج جهودا ضخمة لعودتها لمظلة العدل الأصيلة وتحتاج لتقدير أي مشية تمشي بعد معاناة للمواطنين معها والتي لم يروا غالبها على أرض الواقع، بالكاد يسمعون عنها بجريدة «أم القرى» والتي لا ترى بالعين المجردة هذه إن وجدوا الصحيفة.

هذه اللجان تحتاج لإعادة التجديد التشريعي ليكون أكثر عصرية وأكثر تجاوزا للثغرات وأكثر تفريعا مؤصلا وأكثر تجربة ومرونة ودعما بالقضاة المتخصصين وأقرب لحاجة الناس في مكان إقامتهم وها نحن نستشرف الأيام القادمة ليكون القضاء في المملكة العربية السعودية من أكثر الأجهزة العالمية حداثة.

الاستبيان الإحصائي واستطلاعات آراء المواطنين والخبراء ستقطع لسان كل خطيب. ولكننا لا نريد.

ومن حرصنا على أن يطلع المواطنون على الحركة التطويرية الهائلة التي تشهدها المؤسسة العدلية، في ظل طموحات خادم الحرمين الشريفين لتطوير مرفق القضاء، وعلى أي مشروع ارتيادي لا بد أن يأخذ نصيبه من الإثراء الفكري والنقاش الطويل المتخصص وغير المتخصص من الملامسين للواقع العدلي ومع جميع شرائح المجتمع من أجل البناء العام ومن أجل المصلحة الوطنية العامة.

* قاض سعودي