الإرهاب الجسدي نتيجة للإرهاب الفكري.. والإرهاب الفكري نتيجة للغلو والتطرف

أحمد قاسم الغامدي

TT

حسن وواجب أن نجرم الإرهاب ونحرمه ونجرم ونحرم تمويله ومن يدعو له أو يبرره، كل ذلك لندفع الخطر عنا إلى الوراء، وليتضح للمجتمع خطر التهاون بالإرهاب وتمويله أو الدعوة إليه. لكن لماذا لا نميته في محاضنه؟

إننا يجب أن نعرف أن الإرهاب الجسدي أو الاقتصادي ليس هو المرض الحقيقي الذي يجب أن تتوجه الجهود الاستراتيجية الكبرى إليه؛ لأنه في الحقيقة عرض ناشئ عن الإرهاب الفكري الذي تولدت زعاماته وأتباعه من محضنه الأساسي، الذي هو التشدد والغلو في الدين، ذلك المنهج الذي اتخذ الكثير من الوسائل والبرامج بين أظهرنا ليقوم على تهيئة وتعبئة شبابنا بالغلو والتشدد، شعر بعضهم بذلك أو لم يشعر، فتلك البيئة هي التي تتيح له نموا مطردا عبر الأنشطة المختلفة التي قد نرى في ظاهرها الخير، وفي باطنها يكمن الخطر الحقيقي، الذي ولد مخزونا كبيرا في اللاوعي من عقول الناشئة والشباب.

إن الغلو والتشدد إذا أصبح بيئة عامة يعيشها الناشئة في مجالات تعليمهم وحياتهم المختلفة سيدفع ذلك المناخ بالمتحمسين منهم للوقوع في حمأة الإرهاب الفكري، متى اصطدم بمن يخالفه الرأي فيما يعتقده، وسيسارع إلى فرض رأيه على الآخرين بكل وسيلة؛ لأنه أصبح يعتقد أنه وصي على غيره، والحق فيما يراه، ومن يخالفه فهو عدو له، فإذا لم ينجح في فرض رأيه حينها؛ فإن البعض من أولئك سيرتقي لفرض رأيه بالقوة، ولو بالإرهاب الجسدي أو الاقتصادي.

إن الغلو والتشدد لا يدعوان للرفق والسماحة والاعتدال، وإنما يدعوان لنقيض ذلك، ولقد ظهرت دلالة ذلك مبكرا على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قال قائلهم: «اعدل يا محمد؛ فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه ‏الله.....» فقال فيه - عليه السلام -: «إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية».

إن التشدد والغلو غالبا ما يدفعان بصاحبهما لمثالية فارغة من معناها؛ فهو لا يتفهم مقاصد القرآن وحقائقه، وإن كان حاملا لنصوصه، فإنه لم يجاوز به الحناجر والمنابر، وهو يمرق من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية مروقا خفيا شديد الخفاء؛ لأنه لا يُرى عليه من المظاهر إلا مظاهر الصلاح التي لا يُجارى فيها؛ فقد يحقر أحدنا صلاته مع صلاة ذلك الغالي، ويحقر قراءته مع قراءة ذلك الغالي لكنه يمرق من الإسلام بخفاء شديد قد لا يتبين لكثير من الناس، لما يُرى عليه من مظاهر الصلاح.

إن الإرهاب الفكري نتيجة من نتائج التشدد والغلو في الدين؛ لأن التشدد يدفع بأصحابه لفرض مفهومهم عن الدين والعدالة الشرعية، ولو باتهام الآخرين أو أفعالهم بالظلم أو الفسق أو الكفر. أو غير ذلك من التهم الجاهزة عندهم بنصوص يحملونها لم تجاوز حناجرهم؛ فلم تصل معانيها الحقيقية لقلوبهم؛ ليُرهبوا بهذه التهم من يتهمونه، ويسيرونه كما شاءوا، ويجبرونه فكريا على فهمهم القاصر للدين، خوفا من التكفير والتفسيق! ومن طبيعة هذا الإرهاب الفكري للمتشددين دينيا أن ينقلب بعد حين إلى مرحلة الإرهاب الجسدي. كما حذر منهم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث ذكر فيها كيف أنهم يخرجون بالسلاح على الأمة فيقتلونهم، وبشر الواقفين أمامهم والمواجهين لهم بالأجر العظيم.

إن المتأمل لكل إرهاب فكري مر على الأمة سيجد أن مآله التحول لمرحلة الإرهاب الجسدي.. والتاريخ يثبت هذا؛ فإن هذه المثالية الفارغة التي خرجت كإرهاب فكري على الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ووصمته بالظلم المالي والوظيفي، ثم ما لبثت أن خرجت عليه وعلى الأمة بإرهاب جسدي فقتلته، وقلبت كيان الأمة، وفتحت عليها الفتن، تعد صورة واضحة لذلك، وهذه الصورة تكررت فوقع منهم نحوها مع علي - رضي الله عنه - والتاريخ مليء بالأمثلة على ذلك..

وفي عصرنا الحاضر نبع من محاضن الغلو والتشدد مظاهر بارزة للإرهاب الفكري الذي تحول البعض منهم لمرحلة الإرهاب الجسدي؛ فخرج من عباءة جماعات الإرهاب الفكري أفراد وخلايا إرهابية جسدية سمحت لنفسها بقتل وترويع المسلمين والمعاهَدين وتدمير البنايات والمشاريع والخطف وغير ذلك.

هذه هي طبيعة التشدد؛ تنتج الإرهاب الفكري الذي ما يلبث أن يتحول أفراد منه لمرحلة الإرهاب الجسدي... فهل نعي هذه الطبيعة فنقاومها في عمقها وفي محاضنها لنميتها في مهدها قبل أن تترعرع..؟ يجب علينا أن نقف في وجهها بكل ما أوتينا من قوة حتى لا تستشري في مجتمعاتنا. إن علينا ألا نتهاون بأي بيئة تشدد وغلو حتى لا نفاجأ بتطورها إرهابا فكريا ثم إرهابا جسديا واقتصاديا

* مدير عام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة مكة المكرمة