التراث والدين والمعرفي والآيديولوجي في الفكر العربي الحديث والمعاصر

رضوان السيد

TT

أقام مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت مؤتمرا عن «المعرفي والآيديولوجي في الفكر العربي المعاصر» حضرته نخبة من مفكري العالم العربي، وتوزعت بحوثه - بعد التقديم التعريفي للمسألتين والعلائق بينهما الذي قدمه الأستاذ المغربي كمال عبد اللطيف - على التخصصات والعلوم المختلفة استنادا إلى هذه الثنائية مثل بحوث التراث والتاريخ والاستشراق والفلسفة وعلم الاجتماع والاقتصاد والأدب. وكان من نصيبي كتابة بحث عن «تحقيق التراث وقراءاته» في الفكر العربي الحديث والمعاصر، كما عقبت على البحث الذي كتبه الدكتور حسن حنفي عن الاستشراق وتأثيراته في الفكر العربي.

قسمت بحثي إلى قسمين، القسم الخاص بتحقيقات التراث أو النصوص العربية القديمة وكيف ظهر النشر العلمي لها، وخصصت القسم الثاني للقراءات الآيديولوجية وشبه الآيديولوجية للتراث فيما بين الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وقد تبين لي بالتتبع أن المستشرقين الأوروبيين (الألمان والفرنسيين والبريطانيين والهولنديين) كانوا سباقين في مجال النشر العلمي للنصوص التراثية العربية منذ أواسط القرن التاسع عشر. وقد ميزت بتبسط وتفصيل بين هذه المرحلة، والمراحل الثلاث السابقة؛ التي كانت ذات أغراض عملية وجدالية (قارن عن ذلك كتابي: المستشرقون الألمان، 2007). المهم بإيجاز أن ما يميز هذه المرحلة التي استمرت حتى أواسط القرن العشرين دوافعها واقترانها بالأفكار النهضوية، وبالمنهج التاريخاني. أما النهضوية فهي فكرة أوروبا عن نفسها، باعتبارها تستند في إبداعها وعقلانيتها وهويتها إلى أصول كلاسيكية إغريقية ورومانية/لاتينية. ومن أجل ذلك فإن تصوراتهم عن الحضارات الأخرى ومنها الحضارة العربية الإسلامية، أن لها نفس المستند التراثي العربي القديم الذي وقع في أصل نشوئها، وإلى الموروث الكلاسيكي (أي الإغريقي) الذي عرفته عن طريق الترجمة، وساد في بعض أصولها (المنطق الأرسطي) وتياراتها الفكرية (فلاسفة الإسلام، وبعض الصوفية والمعتزلة والإسماعيلية). أما المنهج التاريخاني، فأساسه الفيلولوجيا وعلم اللغات المقارن، الذي استخدمه العلماء الأوروبيون وطبقوه في نشر نصوصهم الإغريقية واللاتينية، ثم في دراستها وتفسيرها، ومن ضمن ذلك بالطبع الدراسات التوراتية والإنجيلية (التي استخدموا اللغات السامية في نطاقها ومن ضمنها اللغة العربية). وهكذا فإنهم عندما أقبلوا على التعرف على الحضارة العربية الإسلامية خضعوا للدوافع والتصورات والأهداف نفسها بعد تأثيرات عصر الأنوار، التي نحت الدوافع الدينية والجدالية إلى الهامش دون أن تختفي كليا. أقبل علماء الساميات والمشرقيات إذن في القرن التاسع عشر على نشر النصوص المخطوطة: التاريخية واللغوية والأدبية والجغرافية والفلسفية والدينية. وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بدأوا بكتابة الدراسات عن الحضارة العربية الإسلامية استنادا لتلك النصوص المخطوطة والموجودة في خزائن مكتباتهم، التي كانوا يقومون بنشر أهم ذخائرها بالطرائق العلمية التي نشروا بها المخطوطات اليونانية اللاتينية.

وعندما ظهرت المطابع بالعربية في القرن التاسع عشر، سارع العرب والمسلمون منذ سبعينات القرن التاسع عشر إلى إعادة طبع النصوص نفسها التي طبعها المستشرقون لكن من دون تحقيق وتدقيق وبالقاهرة وإسطنبول وبيروت. ثم ما لبثوا أن أقبلوا على نشر نصوص مخطوطة دينية في الغالب ما نشرها المستشرقون. وفي مطلع القرن العشرين وحتى الثلاثينات منه اقتبسوا طرائق المستشرقين التحقيقية، وساروا فيها على نحو متميز فاق أحيانا ما فعله المستشرقون. وفي هذه المرحلة بالذات (الثلث الأول من القرن العشرين) سار المحققون والدارسون العرب على نهج المستشرقين ذاته لثلاث جهات: اختيار النصوص للنشر وطريقة النشر، والبدء بكتابة دراسات استنادا إليها، وتبني أطروحات أوروبية واستشراقية مثل فكرة التقدم وشروط المدنية، ومثل أطروحة التأريخ الثقافي للحضارة، كما استعاروا بعض الإشكاليات مثل الانتحال في الشعر الجاهلي، والأصيل والدخيل أو العقلاني والتقدمي في المسار الحضاري والآخر المحافظ والرجعي. وأبرز الإنجازات في هذه المرحلة النشرات العظيمة لنصوص مثل «الأغاني» و«صبح الأعشى» و«النجوم الزاهرة» وبعض دواوين الشعر العربي القديم (دار الكتب المصرية)، وظهور «تاريخ التمدن الإسلامي»، و«تاريخ الآداب العربية» لجورجي زيدان، و«فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام» لأحمد أمين. وفي الأربعينات من القرن الماضي ظهرت أطروحة الشيخ مصطفى عبد الرازق، الأستاذ بالجامعة المصرية وشيخ الأزهر فيما بعد، التي تعتبر أن الأصالة والإبداع في الحضارة العربية ظهرا على التوالي في: اللغة وأصولها، وفي علم الكلام، وفي التصوف، وأخيرا لدى فلاسفة الإسلام - وهذا معاكس تماما لما كان يذهب إليه المستشرقون والمتأثرون بهم. وسواء أكان الشيخ مصطفى عبد الرازق - شقيق علي عبد الرازق صاحب كتاب: «الإسلام وأصول الحكم» - يعرف نتائج ما سيصل إليه تيار الأصالة الذي أطلقه أم لا؛ فإن تطورات مصاحبة حدثت في الأربعينات والخمسينات، أدت إلى تبلور توجه الإسلاميين الرافضين للاستشراق وللغرب كله معا، فدخل نشر النصوص، والتفكير الإسلامي كله في توجه جديد قاطعا مع كل السابق.

وما درست في محاضرتي عن قراءات التراث توجهات الإسلاميين الجدد في النشر التراثي، والدراسات الإسلامية. بل درست أطروحات تيارات الأكاديميين اليساريين والتغييرين الراديكاليين، الذين استخدموا النصوص التراثية بطرائق مختلفة، من أجل التوصل إلى القطيعة مع الغرب أيضا، فتلاقوا في السبعينات والثمانينات مع الإسلاميين، سواء وعوا ذلك أم لا - والمثل الأبرز على ذلك كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد! اخترت من القراءات اليسارية والتغييرية للتراث أربع شخصيات ترمز لأربع محاولات وهي أو وهم: عبد الله العروي، ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابري، وحسن حنفي. وما درست أطروحة الماركسيين التقليديين والقوميين (من مثل حسين مروة وطيب تيزيني وتوفيق سلوم)، مع أنهم كانوا يستحقون ذلك، لأنهم لا يملكون أطروحة مكتملة أو نظرية في التراث، ولأنهم لم يعنوا بمسألة الاستشراق، التي هي الركن الآخر للعمل الآيديولوجي على الموروث مفهوما في سياق العلاقة بين الغرب والشرق.

بدأ العروي عمله برؤية نظرية في الاستشراق والتراث الإسلامي في الوقت نفسه، تقول على أساس من التاريخية الماركسية، بتجاوز الاستشراق، والخروج من التراث معا، تحت اسم: الفوات التاريخي. فالمعرفة التراثية التقليدية والإصلاحية مفوتة، لأنها تستعيد الزمان الفائت بأشكال متشابهة. وكذلك الأمر مع الاستشراق، الذي يستعيد الوعي الغربي المفوت، بحكم التاريخ. أما محمد أركون فتخرج لدى المستشرقين وتمايز عنهم بالانتقائية عندما ركز على التيار الإنسانوي في التراث. ثم ازداد تمايزه منهجيا عنهم بقوله بالإسلاميات التطبيقية. ثم استخدم الإبستمولوجيا وعلوم الإنسان والمجتمع المعاصرة في قراءة التراث الإسلامي، فالعقل الإسلامي عبر القول بتفكيك الأرثوذكسيات. ولا يزال ماضيا في السبيل نفسها، مع عودات أخيرة لإنسانويات التراث في مواجهة أرثوذكسياته. وبدأ الجابري العمل على التراث بهدف استحداث نهوض قومي، مستعينا على تجاوز الموروث بالتصنيف الإبستمولوجي للتراث الفكري كله إلى بيان وعرفان وبرهان. واختار من تلك التيارات التي سادت «العقل العربي» الموروث البرهاني الذي يسير في خط مستقيم من أرسطو إلى ابن رشد عبر المغرب العربي والأندلس، وصولا إلى أوروبا العقلانية. ثم عمد في السنوات الأخيرة إلى كتابة تفسير للقرآن على ترتيب النزول، وليس كما في المصحف العثماني، دونما إدخال للقرآن في منظومته للتصنيف الإبستمولوجي. وأقبل حسن حنفي - من أجل تجاوز الموروث أيضا – على قراءة التراث كله، وإعادة بناء علومه من جديد، إعدادا له ووضعا في خدمة «الأرض والإنسان».

لقد اعتبرت هذه المحاولات الماركسية والتغييرية أبرز القراءات للتراث العربي من جانب الأكاديميين التحرريين والتحريريين. وقد هدفت إلى التحرر من الموروث أو تأثيراته، كما هدفت للتحرر والتحرير من القراءة الاستشراقية. وقد أخذ عليّ الزملاء المعقبون أنني ما درست محاولات الماركسيين التقليديين والقوميين. وأخذ عليّ بعض آخر منهم أنني ما درست البحوث الأكاديمية العلمية وغير الآيديولوجية التي صدرت مئات منها في العقود الثلاثة الأخيرة في رحاب الجامعات. إنما الذي قصدت: عرض تحقيب جديد لقضايا العناية بالتراث تحقيقا ودراسة، ومن ضمن ذلك تأمل «الآيديولوجي والمعرفي» في هذه المسائل كلها، كما هو موضوع المؤتمر. والذي أراه في الخاتمة أن هذا المدخل – رغم إشكاليته المنهجية - خصب، ويستحق أن يكون منطلقا لدراسات أخرى في مجال الفكر العربي المعاصر.