تحقيق التراث العربي بين التوثيق والنهضوية

رضوان السيد

TT

اندلع من جديد بين غير المختصين نقاش حول نشر المخطوطات، وما ينشر وما لا ينشر. وهو هذه المرة نقاش في الأهمية والأولويات، وليس في المباح والمحرم. فهناك من رأى أن مئات النصوص التي تنشر سنويا في سائر أنحاء العالمين العربي والإسلامي ودوائر الاستشراق، هي في الأعم الأغلب لا تعرض جديدا لا نعرفه من مخطوطات أخرى من قبل. والغالب أن تكون لعدد محدود من المؤلفين الكلاسيكيين المكثرين، وتدور حول موضوعات غير مهمة، سبق أن نشرت فيها عشرات النصوص المشابهة. ويرد الناشرون لتلك النصوص بأنه من غير الصحيح القول إن رسائل ابن أبي الدنيا أو السيوطي أو ابن الجوزي غير مهمة، حتى وإن تكن نصوصهم الأهم قد نشرت من قبل. فهي في الحد الأدنى توثيق يرمي للإحاطة بسائر جوانب الإنتاج المعرفي لهذا المؤلف أو ذاك، ولهذا التراث العربي الإسلامي الضخم الذي ضاع أكثره وينبغي أن نحرص على نشر ما بقي منه. وفضلا عن ذلك؛ فإن رواج فنون النشر التراثي، مرده إلى وجود فئات واسعة من القراء، التي يكون على الناشر الذكي والناجح أن يستجيب لاحتياجاتها. لكن الناقدين لهذا الفيض من النشر التراثي يعودون للاتهام بأن وراءه دوافع آيديولوجية، لنصرة هذا الاتجاه الإسلامي المعاصر أو ذاك. وهذا أمر لا ينبغي أن يثير الاستنكار. فالليبراليون والتحرريون واليساريون العرب قاموا منذ الستينات من القرن الماضي، بوضع خطاطات للموروث الثقافي العربي، فقسموه إلى رجعي وتقدمي وبين بين، وأقبلوا على دراسة «التقدمي» منه، وإدانة «الرجعي» - في الوقت الذي كان فيه الإسلاميون يقبلون على نشر المخطوطات والرسائل التي يرون فيها تأييدا لرؤاهم في ماضي الإسلام وحاضره. والذي أراه أن هذا الجدال ما عاد ذا تأثير. لأن الواقع هو ما يقوله الناشرون للتراثيات؛ فهم منذ عقود لا يأبهون لهذا التوجه الآيديولوجي أو ذاك، وإنما ينشرون كل ما يقع تحت أيديهم دونما اعتبار للقيمة أو الأهمية أو التوجه المذهبي، ويجدون دائما من يشتري النصوص، والدراسات الصادرة عن مؤلفيها.

بيد أن ما ينطبق على أكثر المنشور من مخطوطات التراث منذ السبعينات من القرن الماضي، لا ينطبق على المرحلتين السابقتين - مرحلة بدء التحقيق العلمي للنصوص (بين أواخر القرن التاسع عشر وثلاثينات القرن العشرين)، والمرحلة الأكاديمية الواقعة بين الثلاثينات والستينات من القرن العشرين. ففي المرحلة الأولى، التي بدأت لدى المستشرقين في أواسط القرن التاسع عشر، كان نشر المخطوطات وتحقيقها ووضع فهارس لها، من صنع المستشرقين. وقد تأثروا في ذلك بعدة أمور: عصر الأنوار الأوروبي الذي أنهى الجداليات المشتعلة ضد الإسلام، ونشر أفكارا وتوجهات جديدة حول فكرة أوروبا عن نفسها، وفكرتها عن حضارات العالم وثقافاته ودياناته. وفكرة أوروبا عن نفسها أن حضارتها وهويتها تأسستا في العصرين اليوناني والروماني. ولذا فقد أقبل الأوروبيون على نشر ذاك التراث، وكتابة الدراسات حوله. وطوروا طرائق للتحقيق والنشر العلمي. وهكذا فإن نشر التراث اليوناني - وجزء مهم منه وصل إلى أوروبا عن طريق المسلمين - كان في وعي الأوروبيين عملا نهضويا كبيرا. ولذا فعندما أقبلوا على الاطلاع على الحضارة العربية الإسلامية، سلكوا المسلك ذاته: الإقبال على نشر أصول تلك الحضارة من أجل فهمها، واستخدام الطرائق نفسها التي استخدموها في نشر المخطوطات والوثائق اليونانية والرومانية؛ في نشر مخطوطات التراث الإسلامي، الأقدم فالأقدم. فالأقدم هو الأكثر أصالة ونهضوية، والنصوص التاريخية قبل غيرها. ومع النصوص التاريخية جاء نشر المعاجم والقواميس وكتب اللغة والأدب؛ كما كان عليه الأمر مع الإغريق والرومان.

وفي سبعينات القرن التاسع عشر، بدأت المطابع في العالمين العربي والإسلامي، تعيد نشر النصوص التي نشرها المستشرقون لكن دون تحقيق أو تدقيق أو فهارس. ثم بعد مدة، صار الطابعون والمحررون ينشرون نصوصا دينية وفقهية لم ينشرها المستشرقون، دونما جهد كبير أيضا غير التصحيح. لكن أواخر القرن التاسع عشر شهدت إقبالا على تبني المقاربة الأوروبية للجهتين: الشكلية والمضمونية. فمن الناحية الشكلية جرى تبني طرائق التحقيق الأوروبية بالاعتماد على أكثر من مخطوطة، وبصنع فهارس وتكشيفات للنصوص. ومن الناحية المضمونية جرى نشر الأقدم والأكثر أهمية بحسب وجهة النظر آنذاك، باعتبار أن النصوص الأقدم هي التي تقع في بدء النهوض الحضاري العربي والإسلامي. وكان من ضمن ذلك أيضا تقليد المستشرقين في نشر النصوص التاريخية والمعاجم، فالنصوص الفقهية والأدبية.

وعلى مشارف الثلاثينات من القرن العشرين، كانت أفكار قد نضجت بشأن سبل النهوض. فبدأت النخب العربية التي دخلت الجامعة المصرية، والمجمع اللغوي العربي بدمشق، للتدريس أو للبحث، تكتب دراسات في التاريخ الفكري والديني والثقافي والأدبي للعرب والإسلام. وفكرة التاريخ الثقافي فكرة أوروبية، لكن الأكاديميين الذين أقبلوا على الكتابة فيها، كانت مستنداتهم النصوص التراثية. وذلك مثل «تاريخ التمدن الإسلامي»، و«تاريخ آداب اللغة العربية» لجورجي زيدان، و«فجر الإسلام»، و«ضحى الإسلام» لأحمد أمين، و«الإسلام والحضارة العربية» لمحمد كرد علي. وفي المرحلة الأكاديمية هذه فيما بين الثلاثينات والستينات، أتقن الأساتذة العرب تقنيات نشر التراث، ونشروا نصوصا ضخمة تفوقوا فيها على المستشرقين بعد أن كانوا قد تعلموا منهم. وقد اشتهرت في هذا السياق نشرات «دار الكتب المصرية»، مثل كتاب «الأغاني» و«صبح الأعشى» و«النجوم الزاهرة»، ودواوين الشعر الجاهلي والإسلامي. ثم ظهرت منشورات «المجمع العلمي العربي» بدمشق ومجلته، ومنشورات «لجنة التأليف والترجمة والنشر» التي ترأسها أحمد أمين.

وفي أربعينات القرن العشرين، انتشرت فكرة الشيخ مصطفى عبد الرازق، الأستاذ بالجامعة المصرية وشيخ الأزهر فيما بعد؛ بشأن جوانب الأصالة في التراث الإسلامي. فقد كان المستشرقون يركزون على الأصالة في التراث الفلسفي العربي، لأن أصوله إغريقية، والأكثر أصالة هو الأكثر أرسطية أو أفلاطونية. لكن الشيخ مصطفى عبد الرازق في كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» (1944) حدد درجات الأصالة والإبداع في الحضارة الإسلامية على النحو التالي: علماء أصول الفقه، ثم علماء الكلام، ثم المتصوفة، ثم فلاسفة الإسلام! فكان هذا «التجديد» بين أسباب الاستقلالية المتزايدة عن المستشرقين؛ لكنه كان أيضا علة في نشر أفكار الأصالة، وما هو الأكثر أصالة، والذي أفضى إلى قطيعة مع المستشرقين في الستينات، ومن جانب الإسلاميين واليساريين معا: الإسلاميون لأنهم اتهموهم بالتبشير والاستعمار الثقافي، والتآمر على الإسلام، واليساريون لاتهامهم لهم بالتبعية للإمبريالية الغربية. ومنذ الستينات والسبعينات دخل نشر النصوص التراثية في مرحلة جديدة هي الثالثة، التي ما عادت تخضع لشروط المستشرقين الأكاديمية في الشكل، كما لا تحتكم إلى مقاييسهم في الاختيارات النشرية.

وهكذا فإن نشر التراث العربي ما خلا على الدوام، وطوال قرن ونصف القرن، من أغراض آيديولوجية إيجابية أو سلبية. بيد أن كمية الآيديولوجيا كانت أقل في النصف الأول من القرن العشرين. ثم في العقود الأخيرة، ما عاد هناك تعمد أو اختيار معين للنصوص التي يراد نشرها، باستثناء النصوص التي تنشر في سياق أطروحات جامعية.