القضاء السعودي.. الأصالة والتطوير

د. عيسى الغيث

TT

حملت المملكة العربية السعودية رسالة الإسلام، وقامت بالحكم بشريعته، وأقامت أعلام العدالة، مستفيدة من منتجات العصر في الوسائل والإجراءات، وجميع ذلك بقوالب أصيلة وقواعد ثابتة، وهذا التميز بدأ منذ تأسيس هذه الدولة الفتية بيد الفذ الملك عبد العزيز، طيب الله ثراه، ومرورا بالملوك سعود وفيصل وخالد وفهد، رحمهم الله، ووصولا للملك عبد الله، حفظه الله.

وللشريعة الإسلامية آثار خيرة ومحامد نيرة، برزت في واقع التطبيق السعودي للقضاء العادل، ودحضت مزاعم المناوئين لحكم الشريعة، وأنها غير مناسبة ومعطيات العصر الحديث، فجلت بوضوح غبش اللوثات الفكرية حيال هذه القضية وما يطرح حولها، ولسان حالها يقول: الواقع العدلي الذي نفخر به هو الدليل، فلا أحد فوق العدل، ولا أحد دون العدالة، والجميع في ميزان واحد تحت مظلة الشريعة الإسلامية.

ولذا فلا يمكن لأحد أن يزايد على القضاء السعودي، ولا يمكنه أن يقدم الدليل على خلاف ذلك، فساحات القضاء ومدرجات المحاكم وقاعات الجلسات أثبتت على مر العقود أن القضاء السعودي لا يعرف إلا العدل والعدالة، فقضى بين الناس في حقوقهم ومنازعاتهم بعمل جليل القدر والاعتبار، فحصلت مصالح ومنافع، ودفعت مفاسد ومضار، فوصلت الحقوق، ودفعت المظالم، وقطع التنازع، وحققت العدالة والمعروف، ونبذ الظلم والمنكر.

إن القضاء في الشريعة الإسلامية يرجع إلى أصول وركائز مستفادة من وحي الشرع ومشكاة الرسالة، فالأحكام في الأقضية السعودية مردها إلى الشريعة الغراء، «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ»، والجميع راضون ومفتخرون بهذه العدالة الربانية، «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»، وبين أيدينا ثروة ضخمة زاخرة من الدراسات والبحوث الدقيقة في شتى المسائل والحوادث عبر العصور المتعاقبة لهذه الأمة، فأصبحت في مادتها التشريعية مرجعا لغيرها من الأمم في قوانينها وأنظمتها، وذلك لما تحمله الأحكام الشرعية من عدل وعدالة.

كان الناس من قبل في كثير من الأماكن يغلب عليهم الجهل والظلم والبغي والعدوان في مناحي الحياة، فلا سيادة لنظام منصف، ولا حكم لشرعة عدل، وإنما السيادة والحق للأقوى، والشرعة الحاكمة لما استحسنه العرف القبلي والعادات الإقليمية، وسانده كبراؤها وزعماؤها لحاجة في أنفسهم، حتى قامت هذه الدولة المباركة الفتية، التي عممت الأمن، وأرست العدل، وأصبح الجميع ينتقلون آلاف الأميال من شمال البلاد وحتى جنوبها، ومن شرقها وحتى غربها، وهم آمنون على أنفسهم وأهلهم وأموالهم وجميع شؤونهم، والعدل منتشر بين الجميع، فلا يعتدي أحد على أحد، وإذا حصل خلاف هذا وذاك، فإن العدل لهم بالمرصاد، حيث الحكم بشريعة الإسلام، وفي سائر شؤون الحياة، وعلى مدى ثلاثة قرون، وذلك منذ اللقاء المبارك الجامع بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله وطيب ثراهما، فنهضا بالدعوة إلى التوحيد، وتحكيم الشريعة، ونبذ الأعراف الجاهلية، فتحققت العزة والنصر والتمكين للحق وأهله، فتآلف الناس تحت ظلال هذا الحكم الوارف، واحتكم الجميع بادية وحاضرة إلى الشريعة الغراء في حضن هذه الدولة المباركة.

ومن ذلك ما أوضحه معالي وزير العدل السعودي الدكتور محمد العيسى بقوله إن العدل يمثل القيمة العليا التي قامت عليها السماوات والأرض، وهو الغاية التي من أجلها أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، قال تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ». وذكر أن مفهوم العدل - من حيث وضعه اللغوي والشرعي - عام ولا يقتصر على المفهوم القضائي، وأنه يوجز في ثلاث كلمات: «وضع الأمور في مواضعها»، ويسهب البعض بقوله: «إنه إعطاء كل ذي حق حقه بلا إفراط ولا تفريط». وذكر أن بعض الكتابات القانونية تتجاوز المفهوم الدقيق للعدل، فتدخل المساواة في مفهوم العدل، وأن هذا غير دقيق، فالمساواة في بعض الوقائع تخرج عن حيز العدل إلى الجور، ولذلك احتاج لفظ المساواة إلى قيد العدل فيقال: «المساواة العادلة»، ومثل لما ذكر بالميراث، فللذكر مثل حظ الأنثيين، فهنا لم تحصل مساواة بين الأولاد (الذكور والإناث)، لكنها قسمة عادلة؛ مراعى في ذلك حِكمٌ إسلامية عالية، وعندما نساوي في الجزاء بين المصيب والمخطئ، وبين المجتهد والمهمل، فقد تجاوزنا بهذه المساواة وصف العدل إلى الجور.

وأورد معالي الوزير في أكثر من مقال له الخطة التطويرية للقضاء في السعودية، وفقا لمشروع الملك عبد الله لتطوير هذا المرفق الهام، حيث ذكر أن مسيرة التطوير قد بدأت في التاسع عشر من شهر رمضان المبارك من عام 1428هـ حين زف خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - إلى مواطنيه بشرى ميلاد نظام قضائي جديد لوزارة العدل، وديوان المظالم، صاحبه الإعلان عن مشروعه الميمون لتطوير مرفق القضاء، وتخصيص سبعة مليارات ريال؛ لدعم المشروع، خُصص لوزارة العدل منها ستة مليارات، وخوطبت الوزارة بذلك، وعُهد إليها الاضطلاع بمسؤوليته. وجِدة هذا النظام تعني تحديثه وتطويره، لا إنشاءه وابتداءه؛ ذلك بأن التنظيم الإجرائي لقضاء المملكة يحفل بتاريخ يمتد إلى بضعة عقود، وقد تكون مع بداية ترتيب مرافقها، في مشاريع موفقة، اكتملت بموجبها مراحل تأسيس الدولة السعودية الحديثة.

وكما قال معاليه فسيضل قضاء المملكة - بتوفيق الله - صفحة مضيئة في تاريخها الممتد، وسيبقى قضاتها على العهد بهم منارة علم وفهم، يضطلعون بمسؤولياتهم الشرعية بكل قوة وأمانة، وكان لحضورهم العلمي وأدائهم الفني المتميز وما لمسه الجميع من منجزاتهم وتفاعلهم مع الحراك العصري؛ ثقة بما منحهم الله من مقدرة، مع الاعتزاز بثوابتهم الشرعية، أثر بالغ في معادلة الرقم الصعب الذي وصلوا إليه بكل جدارة، مع الضرب صفحا عن كل جاهل أو مغرض أو مفتون. وأكد معاليه أن القاضي السعودي أدهش النظار بتفوقه في علم الأنظمة بعد أن اتجه للتزود منها؛ لخدمة قضائه وتحريك ملكته، حتى جارى في مناظراته وطروحاته، ذوي الاختصاص الدقيق، ولا نجد تفسيرا لذلك إلا حسن النية، وبركة علوم الشريعة، ونقصد بالأنظمة هنا علمها، لا مادتها النظامية، فعندما يدفع في تسبيبه لائحة الادعاء بتطبيق عقوبة مشمولة بنظام لاحق للجرم، وقبل الحكم، ما لم يكن للمتهم مصلحة في التطبيق، يستند في ذلك على قاعدة نظامية مطردة، لها أصل في عدل الشريعة، وهو عدم أخذ المتهم بنص غير نافذ وقت الجريمة، فالمدان يُشمل بالنص عندما يباشر جريمته بعد نفاذه، لتقوم الحجة عليه؛ (عدم رجعية النص الجنائي ما لم يكن أصلح للمتهم)، وفي التنزيل الحكيم «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا»، ونظائر هذا عديدة، مما تظهر منه إيجابية الإفادة من علم الأنظمة؛ الأمر الذي حفل به نظام القضاء الجديد في فصل تعيين القضاة، مع الإبقاء على شرط الحصول على شهادة إحدى كليات الشريعة.

فالقضاء السعودي كان ولا يزال وسيستمر - بإذن الله - نموذجا للعدل بين الجميع، ومقياسا للنمو، وسنرى في قادم الأيام المزيد من التطوير في شتى مناحيه، متوافقا مع تقدم الحياة ولوازمها، وكل هذا بفضل الله ثم بفضل خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني الذين قادوا المسيرة إلى المزيد من البر والتقوى وخيري الدنيا والآخرة.

* قاض في المحكمة الجزائية بالرياض