الأمير تشارلز والحفاظ على العلاقة بالمسلمين

رضوان السيد

TT

كان يوم الأربعاء 9/6/2010 يوما مشهودا بجامعة أوكسفورد، ببريطانيا. ففي ذلك اليوم جاء الأمير تشارلز ولي عهد المملكة إلى مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية، فألقى بحضور حاشد بريطاني وعربي وإسلامي، محاضرة طويلة عن «الإسلام والبيئة». وما قاله الأمير البريطاني في المحاضرة يتجاوز الموضوع نفسه على أهميته، إلى المكان وإلى الآفاق وإلى الأصول والخلفيات. فالأمير تشارلز هو راعي مركز الدراسات الإسلامية الذي أنشأه قبل خمسة وعشرين عاما باكستانيون يتقدمهم العالم المشهور أبو الحسن الندوي وقد حظي بدعم ومساندة كثير من الدول والشخصيات العربية والإسلامية. وكان الراعي البريطاني قد جاء إلى المركز عام 1993 فألقى فيه محاضرة بعنوان «الإسلام والغرب»، شكلت وقتها لفتة ذات دلالة إلى السياسات البريطانية البعيدة المدى فيما يتصل بالعلاقة مع المسلمين ببريطانيا، والرؤية الاستراتيجية للأنجليكان بشأن العلاقات بالعالم الإسلامي. وكنا وقتها على مشارف الانفجارات المتوالية في تلك العلاقة المتأزمة. ففي العام نفسه صدر مقال صمويل هنتنغتون عن «صدام الحضارات»، وفي عام 1994 قبض الأميركيون على الشيخ عمر عبد الرحمن، واتهموه بالتحريض على المحاولة الأولى لتفجير مركز التجارة العالمي بنيويورك. قال الأمير تشارلز آنذاك إن الإسلام هو دين وحضارة كبرى تقع في أصل الحضارة الغربية، ولا بد من السعي من جانب العقلاء من الطرفين لتحويل العلاقة التاريخية التي خالطتها المشكلات، إلى شراكة لا تسوء ولا تتزعزع. لكن الشراكة لم تحصل، وازدادت المشكلات وتعقدت، وما قصر الطرفان في الإساءة إليها. فالبريطانيون حولوا قصة سلمان رشدي إلى مسألة تتعلق بشرفهم وحرياتهم، والمسلمون اعتبروا الحماية البريطانية لسلمان رشدي الحامل للجنسية البريطانية، تشجيعا بريطانيا وغربيا على الإساءة للإسلام. ثم جاءت سنوات توني بلير المقبضة، التي شارك خلالها الأميركيين في غزو أفغانستان والعراق، والتشديد على المسلمين البريطانيين بحجة دعمهم لإرهاب «القاعدة»، وإلى قيام شبان مسلمين عام 2005 بتفجير القطارات. ورغم أن الأمزجة هدأت بعض الشيء الآن، وما دخلت بريطانيا في حملات أوروبيي القارة على الحجاب والنقاب؛ فإن العلاقات بين الطرفين بالداخل البريطاني، ما ظهر فيها تحسن ملموس. وهكذا أتى الأمير تشارلز إلى أوكسفورد والمركز مرة ثانية ليقول أشياء لا تبدو ذات أهمية استثنائية لولا الظروف والسياقات، بعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، كما يقول المثل العربي. قال الأمير تشارلز في محاضرته عن «الإسلام والبيئة» إنه إنما جاء احتفاء بالذكرى الخامسة والعشرين لقيام المركز، وليقرر دون تردد أن العالم في حاضره ومستقبله في خطر كبير بسبب التكاثر الديموغرافي، وتلوث البيئة، وأن الإسلام (والأديان الأخرى) يملك ما يسهم به في حل المشكلات العالمية الكبرى التي تسببت فيها الحضارة المادية الطاغية. فهناك إمكانات كبرى نصية وروحية في دين المسلمين وحضارتهم، ويكون عليهم أن يتذكروها، وأن يبادروا للتعاون مع العالم من خلال موروثهم ووعيهم وشراكتهم مع سائر أمم العالم، باعتبارهم ركنا أساسيا فيه.

لا يملك الأمير تشارلز، كما لا تملك والدته الملكة، صلاحيات تنفيذية. لكن السؤال عن نفوذه، مثل سؤال جوزف ستالين عن كم يملك بابا روما من الدبابات والمدرعات والفرق العسكرية! فالرجل، ومنذ مهرجان لندن للفن الإسلامي عام 1976، لا يكل ولا يمل من التذكير بحسن نياته تجاه المسلمين، ورأيه الرفيع بعظمة الإسلام. ولا أحسب أن هذا الإصرار مرده إلى أن الأمير مقبل على اعتناق الإسلام؛ بل لأنه مكلف بالفعل - هو وأسقف كنتربري وآخرون - برعاية العلاقات مع المسلمين البريطانيين، ورعاية العلاقات مع العالم الإسلامي. وكما لم يندفع البريطانيون - مسؤولون ومثقفون - كما اندفع أوروبيو القارة في الإسلاموفوبيا؛ فإنهم ومنذ أكثر من ثلاثة أعوام، يحاولون التمايز عن الأوروبيين (وعن الأميركيين) في الاستدارة باتجاه الإسلام، وحتى باتجاه القضية الفلسطينية. وتدفعهم لذلك عدة عوامل. أول تلك العوامل اندفاعات الإنجيليين الجدد خلال العقدين الماضيين ضد الإسلام والمسلمين، وانهماكهم في تأييد إسرائيل واستيلائها على القدس. وما تمايزت الدولة الأميركية في عهد الرئيس بوش كثيرا عنهم لهذه الناحية. ولا ترى الكنيسة الأنجليكانية لنفسها مصلحة في ذلك، لما يحدثه هذا الأمر من اضطراب في أوساط المسلمين ببريطانيا وأوروبا والعالم؛ فضلا عن أن الإنجيليين الجدد يتغلغلون أيضا في بنى الكنيسة الأنجليكانية، ويصرفون الشباب والنساء عنها. والعامل الثاني هو الصدام المتجدد مع الفاتيكان، والذي يقوده البابا بنديكتوس السادس عشر. فقد دعا في مطلع عام 2010 الأنجليكان المحافظين للعودة للكثلكة (التي فارقوها في القرن السادس عشر)، بحجة أن التطورات داخل الكنيسة الأنجليكانية، إنما تخل بأسس المسيحية ذاتها. ثم إن البابا بادر إلى سياسة هجومية في الشرق الأوسط لجهتين: اتخاذ طريق مستقل عن جهات مجلس الكنائس العالمي (وعن اليهود) في مسألة القدس، والدعوة (بالتحالف مع الأرثوذكس) إلى سينودس (اجتماع كنسي) للبحث في مصائر مسيحيي المشرق. وكان الفاتيكان قد أصدر تقريرا عن المسيحية الشرقية قبل أشهر جاء فيه أن عدد المسيحيين بالمشرق 17 مليونا، منهم خمسة ملايين من الكاثوليك، والبقية من الأقباط والأرثوذكس. وما ذكر الكنائس البروتستانتية بشيء. ثم كرر البابا هذا الكلام الأسبوع الماضي في زيارته لقبرص الأرثوذكسية، وأضاف إلى ذلك تشخيصا مفاده أن ضغوط الوجود الإسرائيلي بالمنطقة، تهدد وجود المسيحيين فيها، إضافة للإسلام المتطرف. وطبيعي أن يثير ذلك كله حفائظ الأنجليكان (والبروتستانت الآخرين)، وأن يدفعهم للتطلع إلى علاقات أفضل مع المسلمين - وبخاصة أن البابا الكاثوليكي ما يزال ذا موقف مترجرج من الإسلام، سواء في أوروبا أو في الشرق الآسيوي والأفريقي. والعامل الثالث أن البريطانيين الذين كانوا سادة في العالم الإسلامي على مدى أكثر من قرنين، يريدون الآن الخروج من الظل الأميركي الذي استتبعهم على الخصوص بعد الانسحاب من شرق السويس في مطلع السبعينات. وقد تعزوا طويلا بأنهم إنما يؤثرون في السياسات الأميركية من وراء ستار؛ لكنهم ما عادوا يستطيعون زعم ذلك في عهد الرئيس بوش الابن، الذي قسم العالم إلى أعداء وأتباع، ووضعهم في خانة التبعية. وقد تغيرت الأمور في عهد أوباما، لكن البريطانيين الذي ما يزالون أقرب الأوروبيين للولايات المتحدة، يطمحون الآن لسياسات متمايزة تجاه العرب والعالم الإسلامي، تستند إلى الموروث والخبرة التاريخية. وهم الآن أكثر إلحاحا (حتى من إدارة أوباما) في الوصول إلى حل للقضية الفلسطينية، دونما فرق ظاهر لهذه الناحية بين العمال والمحافظين.

من الذي يدير العلاقات مع المسلمين سواء في أوروبا أو في العالمين العربي والإسلامي؟ لا يبدو حتى الآن أن الفاتيكان جدد إدارته لهذه الناحية. وكذلك الأمر مع الألمان والإيطاليين والإسكندنافيين والإسبان والفرنسيين. فالجميع دخلوا في حمى الإسلاموفوبيا إصغاء للميول الشعبية. والجميع تناسوا علمانيتهم وحقوق المواطنة لديهم، ورأوا (وفي مقدمتهم الرئيس ساركوزي) أن الأسهل ممالأة الجمهور للحصول على أصواته، والضغط على مسلميهم بالقوانين القديمة وبما يفرضونه من قوانين جديدة. ووحدهم «الخبراء» الفرنسيون بالإسلام، يحذرون من الاندفاع في هذا الاتجاه لكي لا يزداد التشدد بين مسلمي أوروبا، ولكي لا تتأثر علاقاتهم السياسية والاقتصادية بالعالمين العربي والإسلامي. أما البريطانيون فشأنهم مختلف، والدولة والكنسية عندهم لا تندفعان وراء الجمهور، حتى عندما تضطر الحكومة لشيء من ذلك.

والذي أراه أن محاضرة الأمير تشارلز، وكلمات روان وليامز أسقف كنتربري، والبرامج التلفزيونية، ومقالات الصحف؛ كل ذلك يشير إلى هذا التحول الأكثر وضوحا حتى من الخطابات الأميركية الجديدة. وهكذا فإن المسلمين قد ينسون موضوع محاضرة الأمير تشارلز ذات العنوان البيئي، وسيظلون يذكرون أن الرجل اعتبر الإسلام شريكا على المستوى العالمي، ودعا المسلمين إلى القيام بحقوق تلك الشراكة ومسؤولياتها التي يفرضها دينهم، وتقتضيها حضارتهم.