هل مشكلتنا في القيادة أم الانقياد؟

د. عيسى الغيث

TT

ليسمح لي القارئ الكريم أن أسلط الضوء في مقالتي هذه، على آلاف الصحف العربية الورقية والإلكترونية التي تملأ أرفف المكتبات ومواقع الإنترنت، ولكننا نمر عليها ونقلب صفحاتها ويقل منها ما يدعونا إلى قراءته، فهل يا ترى هي كتابات لذات الكتابة وملء الفراغات اللازمة، أم هي حاجات مجتمعية أوجبت على الكاتب أن يصورها ليعرضها ويشارك بالسعي في علاجها.

لا أكتمكم سرا بأنني كغيري من الكثيرين في وطننا العربي، نشكو من كثرة ظواهرنا الصوتية الممتلئة بالتنظيرات البالغة حد الملل، ولكننا نبحث عن تلك الكلمات النافعة والأفكار المبدعة كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، ولكننا في أحيان أخرى نقول ليتنا بقينا على ذلك الزبد بعد أن بلغنا مستويات من التخلف والانقياد الأعمى، ولكنه في هذه المرة ليس للسياسيين وإنما لبعض الأشخاص والتيارات.

كنا نسمع ونحن صغار شعارات هنا وهناك تنادي بالروح بالدم نفديك يا زعيم، ثم صرنا في زمن الإنترنت والفضائيات والاتصالات نسمع ما يربو على تلك الحقب الغابرة، فصرنا نسمع التبجيل لزعماء جدد صنعهم المريدون بأيديهم ثم صاروا ضحايا بينهم، فما بقي لهم من قرار إلا أن يطاوعوا تلك الجماهير ويسايروها ويستجيبوا لها بدلا من أن يقودوها إلى بر الأمان، ولو وقفوا في طريقهم أحيانا من باب العقل والحكمة، ولكنه الانقياد المتبادل.

إنني أعني بالانقياد المتبادل هو تبادل القيادة للطرفين، فالمريد يقود شيخه إلى ما تريده جماهيره ولو لم يكن مشروعا، وفي المقابل يبدو له أن القيادة بيده، ولكن في هذه الحالة ما هو إلا منقاد لمريديه، وسائر بهم إلى حيث الغوغائيات التي عشناها عقودا من الزمان، فما رأيناها قد استنارت بهدى الوحي، ولا حققت مصالح الدين، ولا حمت حقوق المريدين.

إننا في أوطاننا الإقليمية والعربية والإسلامية نشكو في كثير من الحالات انقلاب الأدوار، ومع ذلك لا نزال نحمل غيرنا مسؤوليات أخطائنا، ولذا ترانا نهرب من نقد ذواتنا إلى تحميل الحكام كامل المسؤولية لواقعنا، وكأن مع حكامنا عصيا سحرية يعالجون بها تلك القضايا الكبرى بضربة هنا أو هبة هناك، دون أن ندرك بأن حكامنا لو استجابوا لتلك الغوغائيات لأصبحنا نحن دونهم حطبا لتلك العنتريات المطلوبة، وسنستمر في تخلفنا وهواننا على الناس ما دمنا بهذه العقلية.

مما تربينا عليه في ديننا الإسلامي الكريم أن تكون أخلاقنا هي أخلاق القرآن، ونلتزم بما فيه من أحكام وتوجيهات، ولذا كم نرى في تلك البيانات الفردية والجماعية الصادرة في كثير من بلداننا العربية من يحملون غيرهم المسؤولية، وربما استغلوا المحن لمصالح شخصية وحزبية، فينقمون على غيرهم بأنهم لا يجيدون سوى الشجب والاستنكار، في حين غفلوا أو تغافلوا أنهم كذلك لا يجيدون إلا الحماسيات البيانية والمراءاة بها أمام العالمين، ثم الزعم بأنها من باب إبراء الذمة أمام الله! ويا سبحان الله! فهل رب العزة والجلال يحتاج لتلك المفرقعات الصوتية ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، ينهى عن رفع الصوت بالمناجاة!.

إنها كرة اللهب يقذفها المؤدلج إلى السياسي، لا ليعالج بها المشكلات الكبرى للأمة وإنما ليبرئ ذمته بزعمه أمام الله! ولكنه في الحقيقة يعلم بأن الله أقرب إلينا ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وإنما المقصود بتلك الصوتيات الجماهير المنقادة لصاحب الصوت الأعلى، إلا أننا في زمن الوعي والتقنية ولم يعد الناس كقطعان التابعين في الغالب، مع أن هناك من بقي على حاله قد رهن عقله ولسانه لغيره، فلا يقبل من سواه صرفا ولا عدلا.

لنعد لكلام ربنا جل وعلا حين يقول «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ»، وقوله «قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ»، فهل وقف الواحد منا مع نفسه برهة من الزمن ليتأمل هذه الآيات؟ لنرَ مستوى النقد الذاتي وعدم تحويل الأخطاء للغير والهروب من المسؤولية.

إذن لنعلق الجرس ونبدأ في بناء بيتنا الداخلي ونقويه قبل أن نسعى للخطوة التالية، ولكننا حينئذ لن نجد من أصحاب تلك الصوتيات والمرئيات والمقروءات سوى إثارة الفتنة في المجتمعات وإضعاف البنية التحتية لتماسك تلك الأرضيات، وربما دعموا بشكل غير مباشر منظمات متطرفة تركت الأعداء وفتنت أهلها بعنتريات طفولية، وآخرها إشغال الأمة عن قضيتها الطارئة والهبة المؤقتة إلى مراهقات صبيانية، ولكنها أظهرت بشكل أو بآخر مستوى التعاطف مع تلك الأفكار، وكأننا لا نزال نبارح المربعات الأولى، متعامين عن ثلاثين عاما من الدروس الجديدة، وعشرة أعوام من الدروس المستجدة.

لنفتح النوافذ ونرَ تلك الأمم الأخرى التي تعيش على هذه الأرض مثلنا، ولكن لكل فرد منهم قيمته وقدره واستقلاله، فلا تجد من يحتقره، أو يُجهِّله، أو يوجب عليه الانقياد لكائن من كان سواء من السياسيين أو المؤدلجين، وإن كان السياسي في البلاد المتخلفة يوجب الانقياد له بالعصا والجزرة وهما حاجتان إنسانيتان من بابي الترهيب والترغيب، إلا أن هناك من يوجب الانقياد له بالوعد والوعيد وبالكلام غير السديد، ثم الويل والثبور وعظائم الأمور لمن خالفه فضلا عمن نقده وأبان خطأه، وكشف معنى العبودية الحقة لله وحده دون سواه، بلا شفعاء ولا وسطاء بأي شكل تلبسوا وبأي حلة تظاهروا.

إنني كغيري من أبناء الوطن العربي والإسلامي عشنا عقودا ونحن لا نرى إلا من يتقاذف كرة المسؤولية على غيره، وكأنه المبرأ من كل تقصير، وبالتالي لم يكتف بتلك الملائكية، وإنما زاد عليها القربة بجلد الغير بشتى ألوان النكبات.

إن القيادة الحقة هي للذات دون سواها، وإن كان السياسي يقود المؤسسات، فلا يجوز لغيره أن يقود الأفراد، وقد ولدوا أحرارا، فلا يرضى أي حر بالعبودية لغير الله، ولكن لنقف مع أنفسنا لنرى مستوى الاستعباد لبعض البشر.

إن الواحد منا في منطقتنا العربية وحتى الإسلامية منذ أن يولد وحتى يموت وهو لا يرى حلا لمشكلة من قضاياه الكبرى، في حين نجد أن الأمم من حولنا تحرروا من الاستعباد وبنوا لهم البلاد وعمروا المهاد فما بقي لهم من تلاد، ولكننا ومع قلة عددنا وحجم بلداننا وكمية مواردنا فنحن لا نحسن تشخيص الداء فضلا عن المبادرة بالدواء.

اثنتان وعشرون دولة عربية لا يزيد عدد سكانها عن ثلث مليار من البشر، وفي شساعة تمتد من الخليج إلى المحيط، وخيرات استراتيجية جغرافية وتاريخية ومادية، ومع ذلك يعيش نصفها في مشكلات، فمن صراع العراق، إلى مصارعة لبنان، إلى استقرار اليمن، إلى اقتسام السودان، إلى نيل مصر، إلى صحراء المغرب، إلى دماء الجزائر، إلى بلاء الصومال، إلى غربة القمر، إلى جولان سورية، وقبل هذا كله قضيتنا الأولى فلسطين، ومع جميع ذلك لا نملك ولا خطة استراتيجية تجاه أي قضية من تلك القضايا، وإنما نحن أصحاب ردود أفعال، وحتى هذه الردود لا نملك وضع اليد على مكمن الداء وإنما نتقاذف التهم، ونزايد على الحكام الذين كأنهم يملكون العصي السحرية برجال من غير نوعنا، فلا القيادة لهم قد احترمناها، ولا لغيرهم ممن لا يملكون شسع نعالهم منعناها، وكل مرمرة وأنتم بخير.

* القاضي في وزارة العدل السعودية