فريد هاليداي.. في رحيل صديق للمسلمين والعرب؟

TT

في زحمة الأحداث السياسية الأخيرة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط غاب عن المهتمين بالعلاقات بين الإسلام والغرب، سيما من أصحاب الاختصاص في العالم العربي، أن يرصدوا وفاة الباحث فريد هاليداي في برشلونة بعد صراع مع المرض، وهو العالم الغربي الذي كرس عصارة فكره لجهة هدم جدار الوهم المتمثل في القول بحتمية المواجهة والتصادم بين الإسلام والغرب.

ولد دنيس هاليداي في دبلن بأيرلندا عام 1946، درس في كلية كوين البريطانية في أكسفورد العريقة، وأضحى لاحقا أستاذا للعلاقات الدولية في مركز دراسات حقوق الإنسان في كلية لندن الاقتصادية ثم رئيس لجنة بحوث المؤسسة الملكية لشؤون الشرق الأوسط.

اعتبر هاليداي واحدا من أهم الأكاديميين والكتاب البريطانيين المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات الدولية، وله عدة كتب مهمة للغاية في مقدمتها «الإسلام وخرافة المواجهة.. الدين والسياسة في الشرق الأوسط»، «العالم سنة 2020، سياسات العالم»، وأيضا كتاب مهم وقيم عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 تحت عنوان «ساعتان هزتا العالم».

كثيرا ما أكد هاليداي أنها قليلة «إن وجدت» هي قضايا العلاقات الدولية التي ولدت من الخرافات قدر ما ولدت قضية «الخطر الإسلامي» المزعوم، فمنذ أواخر السبعينات وبشكل أخص منذ الثورة الإيرانية عام 1978 أصبحت قضية الإسلام وتحديه المفترض للغرب شغلا شاغلا دوليا مستمرا وهو شاغل اختار إبرازه ساسة في الدول الأوروبية الغربية فضلا عن عدد من القادة الإسلاميين.

في كتابه الشهير «الإسلام وخرافة المواجهة»، يشير الرجل إلى الطريقة التي ظهر بها العداء للمسلمين ومن البغض والعدوان تجاههم، لكنه يؤكد أن صورة «خطر إسلامي» كما يجب أن يكون واضحا منذ البداية، صورة مضللة بطرق أخرى، ففي قلب هذا التحدي أو النزاع ذاته يكمن تشويشان، فقد خلطت حقيقة وجود شعوب إسلامية بمعنى ديني وحضاري عام ما بحقيقة اعتناق معتقدات وسياسات توصف بالدقة بـ«أنها إسلامية أو أصولية». وبعبارة أخرى، فقد ادعى البعض أن معظم المسلمين يسعون إلى فرض برنامج سياسي يفترض أنه مستمد من دينهم على مجتمعاتهم، ولطمر حقيقة أن معظم المسلمين ليسوا أنصارا للحركات الإسلامية الراديكالية.

وقد استفاض هاليداي في الحديث عن إشكالية الربط بين الإسلام والمسلمين والإرهاب، إذ أصر دوما وأبدا على أنه ليست هناك علاقة عضوية أو تاريخية بين السياسات الإرهابية والهويات الإسلامية، فحين ظهر الإرهاب بمعناه المعاصر في القرن التاسع عشر لم يكن المسلمون هم الذين شقوا الطريق، وفي الآونة الأخيرة كان هناك الكثير من الإرهاب - ولا إسلام - في أيرلندا الشمالية، أو إسبانيا، أو سريلانكا. وفضلا عن هذا، فإذا كان التعصب هو آفة القرن، فإن ما بدر من استعمار وحروب من قبل الغرب تجاه الإسلام والمسلمين مثل الدرجة العليا المولدة لرد فعل لا يعد المسلمون مسؤولين عنه.

وفي هذا السياق، كان هاليداي يرى أن مفهوم الخطر الإسلامي هو ذاته خرافة، والحديث عن نزاع مستمر عبر التاريخ بين العالم الإسلامي والعالم الغربي هراء، فمن الجانب الإسلامي من الحماقة أن نرى البلدان الإسلامية وكأنها بمعنى ما تهدد الغرب، فقد اختفى منذ أمد طويل الخطر العسكري الذي تثيره قوات إسلامية موحدة، فالقوات الإمبراطورية التي أبعدت عن بوابات فيينا وبودابست في القرن السابع عشر تبخرت مع الإمبراطورية العثمانية في عام 1918.

وقد طرح هاليداي تساؤلا فلسفيا جوهريا: هل هذا العداء للمسلمين هو مجرد آيديولوجية واحدة أم أكثر؟

وعنده أن العداء للإسلام وفكرة أن هناك خطرا إسلاميا خارجيا على المجتمع الأوروبي قد اكتسب في السنوات الأخيرة جانبا إضافيا متجها إلى الداخل وموجها ضد المسلمين الذين يعيشون في المجتمعات الغربية والمجتمعات غير الإسلامية الأخرى.

واتخذت العنصرية في البلدان الأوروبية، وفي فرنسا في المقام الأول، طابعا معاديا للمسلمين أكثر صراحة. أما في الولايات المتحدة، حيث لا يمثل المسلمون جماعة مهاجرة ملحوظة، فإن البلاغيات المعادية للمسلمين عامل مهم في الخطاب السياسي، وفي الهند كان هذا العداء هو ركيزة اليمين الشوفيني الهندوسي.

وإذا كان هاليداي يرى أن هناك مجالا فكريا لإطلاق اسم الرجعية على بعض المواقف التي يتخذها الإسلاميون في يومنا هذا من حقوق المرأة وحق التعبير عن الرأي وحقوق الأقليات وغيرها، فإنه يرفض وسم بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة - الرجعية باسم الفاشية، على غرار ما فعل الرئيس الأميركي جورج بوش في ولايته الثانية. واعتبر هاليداي أن إطلاق تعبير الفاشية أمر مستهتر، وكذلك لا توجد حاجة إليه، إذ إن الاختلافات الكثيرة عن ذلك التيار الأوروبي تزيل كل أوجه المقارنة.

هل كان هاليداي بجانب رؤيته التحليلية الماضوية كمفكر مغرق في دراسة الإسلام والمسلمين كأجناس وكأصحاب أديان منظّرا مستقبليا على صعيد قضايا حساسة أخرى؟

تبقى أيضا قضية الإصلاح ونشر الديمقراطية في العالم العربي من القضايا التي تصدى لها فريد هاليداي في السنوات الماضية، سيما بعد أن كلفت إدارة بوش السابقة نفسها بها وقد فشلت في ذلك فشلا ذريعا في ما بعد.

كانت رؤية هاليداي هي أن الغرب ودول الشرق الأوسط على حد سواء بحاجة إلى تحليل واقعي للسؤال عن أسباب عدم نهوض الديمقراطية في عدد كبير من الدول العربية.

وأول ما يلفت النظر في رؤى هاليداي هو إقراره بأنه «لا يمكن أن تكون واشنطن نفسها هي نقطة انطلاق مثل هذا النقاش، فالنهج البلاغي لحكومة بوش يفتقد - أو بمعنى أدق افتقد - في ما يتعلق بالتحول الدائر في الشرق الأوسط لكلا الفهم التحليلي والجوهر الأخلاقي.

كان كل ما فعلته حكومة بوش هو أنها استخدمت من جديد القوالب السياسية المعهودة في واشنطن والمتغيرة مرة تلو الأخرى، وعنده أنه يتحتم علينا ألا ننسى أن الأشخاص المعنيين في هذا السياق هم الوجوه نفسها التي قالت عند وصولها إلى السلطة عام 2000 إن «قضية إنشاء الأمم ليست قضيتنا نحن». ويضيف أنه «لا المحافظون الجدد المؤيدون لفكرة التحول الشامل ولا خصومهم الليبراليون من أمثال توماس فريدمان يقدمون لنا ولو حتى مجرد لمحة بسيطة من المعرفة عن السياق التاريخي لمجريات السياسة في الشرق الأوسط».

ولعل أفضل قراءات هاليداي بشأن المشروعات الأميركية البوشية لنشر الديمقراطية قوله: «إن البعد الآخر المهمل نقاشه اليوم في سياق علم الاجتماع السياسي هو تاريخ التحول الديمقراطي الغربي نفسه، إن الديمقراطية لم تتحقق في دول الغرب بين عشية وضحاها ولا عن طريق الانتخابات أو التحول السريع، بل ضمن عقود طويلة ومن خلال حروب تقليدية وحروب أهلية شنت في سبيل تكريس الحريات الديمقراطية».

وهاليداي عبر كتابه «ساعتان هزتا العالم» يتوقف بعين العالم والباحث المحقق والمدقق في القضايا الاجتماعية والثقافية الدينية والسياسية التي ألمت بالشرق الأوسط وآسيا الوسطى منذ نصف القرن الماضي.

ولعل خلاصة أحداث الثلاثاء الأسود - أو هكذا أراد لها البعض أن تكون - هي حتمية المواجهة بين الشرق والغرب والقول إن العالمين الإسلامي والغربي مقدمان حتما على صراع، لكن هاليداي يفتح الأعين الأميركية خاصة والغربية عامة على سؤال مثير: لماذا يقدم أفراد ذوو تعليم عالٍ وجيد وعقلاء وغير معوزين على أعمال بالغة القسوة للتعبير عن يأسهم؟

والخدمة الفكرية الجليلة التي قدمها هاليداي للغرب عامة هي أنه لم يكتف بالوقوف موقف المتفرج الذي يلامس سطح الأحداث، بل غاص في عمق ما وراء 11 سبتمبر، واضعا النقاط على الحروف في تحليلاته التي أرادها معمقة في سبيل رؤية صحيحة وواضحة للوقوف على التناقضات التي حفلت بها الدعاية لماوراءيات هذه الحادثة ولنتائجها.

هل خسرنا كثيرا برحيل هذا الصديق المفكر؟ أغلب الظن أن الخسارة الأكبر هي أننا لم نلتفت إلى الرجل عند رحيله، وهنا يصدق الأديب المصري الكبير نجيب محفوظ.. «إن آفة حارتنا النسيان».

* كاتب مصري