عودة الدين إلى المجال العام

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

من بين المفارقات الكبرى التي يمكن ملاحظتها مع كل حديث يتجدد حول علاقة الدين بالدولة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة، ما يتوهمه البعض من أن الدول الأوروبية التي أنجزت في مراحل تاريخية معينة فصلا وظيفيا ما بين المؤسسات السياسية والدينية - بخاصة في ما يتعلق بوضعية الرموز الدينية في الفضاء الرسمي، وما ارتبط بذلك من صراع دامٍ توزع بين منطق الاستبعاد الكامل (الحالة الفرنسية) أو محاولة البحث عن حلول وسطى (الحالة الألمانية) - لا يزال يخيل إلى البعض أن هذه الدول لا تدور في رحاها اليوم نقاشات ثرية حول «وضعية الدين في المجتمع المعاصر»، أو بالأحرى استمرارية الانشغال بالظاهرة الدينية ككل! فعلى العكس من ذلك تماما، وعلى الرغم من الطابع العلماني للمجال السياسي في الدول الأوروبية الحديثة، لا تزال هناك مساحة من التداخل بين الديني والسياسي في الخارطة الثقافية للمجتمعات الأوروبية المعاصرة، وهو ما يبدو واضحا من خلال التشكيلات الحزبية ذات الطابع المسيحي من جهة، وأيضا من خلال تعاظم الدور العام والوزن النسبي للمؤسسة الدينية وخطابها المجتمعي - كما في حالتي إيطاليا وألمانيا على وجه الخصوص - من جهة أخرى.

في كتابه الجديد «هل يحتاج مجتمعنا إلى الدين؟» يصف وزير الداخلية الألماني فولفغانغ شويبلة كيف يمكن للإيمان المفهوم فهما صحيحا أن يحمي الناس من السلطة الشمولية وسوء استخدام السلطة. وللأسف الشديد، فإنه في الوقت الذي يأخذ فيه شويبلة على عاتقه مهمة شرح الإيمان بوصفه قيمة أخلاقية تساهم في تقدم المجتمعات على المستويات كافة، لا يزال البعض ينظر إلى الإسلام باعتباره يقع في الضد من الحرية والليبرالية والديمقراطية، مثلما يروج البعض الآخر لضرورة تحرير المسلمين - ليس من بعض الأنظمة الاستبدادية التي تقهرهم باستمرار - وإنما من الإسلام نفسه!! اللافت في هذا السياق أن كتاب وزير الداخلية الألماني يعد جزءا من سلسلة «الخطابات البرلينية حول السياسة الدينية»، التي يتم نشرها منذ عام 2008 من قِبل دار مطبوعات جامعة برلين. ومن بين المؤلفات المهمة التي صدرت من ضمنها: «الضمير والإيمان والدين» من تأليف أودو دي فابيو، وفيه يتم نقد الرفض الأوروبي الشديد للدين، تماما مثلما هي الحال في كتاب «خوف أوروبا من الدين» لخوسيه كازانوفا، وكتاب «هل الأديان خطرة؟» لرولف شيدر، ناشر هذه السلسلة، الذي يحاول من خلاله رد الاعتبار للإيمان والدين.

وفي كل الأحوال، ليس من قبيل المبالغة القول إن الدين في جوهره هو عبارة عن نسق قيمي في الأساس، وإن التدين كقيمة لها أثر عظيم في المجتمع بوجه عام لأنها تعمل على توحيد أفراد الأمة والأخذ بهم إلى حياة روحية سامية، مع ما تقتضيه هذه الحياة الروحية من نبل وتضحية وإيثار.

ويكفي للتدليل على ذلك أن المنظومة العقائدية المتعلقة بكل من: «الثواب» و«العقاب» و«الآخرة» - التي تعد بمثابة جوهر الخبرة الدينية - يمكن النظر إليها بوصفها البنية الأساسية التي تتضمن المصوغات والمبررات الإنسانية للالتزام الأخلاقي وفق نسق عملي، فضلا عن أن جهاز «الشريعة» الجبار الذي ينفرد به الدين الإسلامي هو في جوهره عبارة عن استراتيجية لتنفيذ منظومة هذا النسق القيمي.

ومن المعلوم أيضا أن الإسلام يشتمل على جانبين رئيسيين: أولهما مجموعة الاعتقادات التي تشكل أصوله، وثانيهما مجموعة الشعائر أو الطقوس التي تمثل رسومه. وكلا الجانبين لا ينفصل في الواقع عن الآخر، فالشعائر والعبادات التي يحسبها البعض مجرد صور وأشكال يقصد بها التقرب إلى الله تعالى تنطوي على بعد قيمي روحي من المفترض أن ينعكس أثره بصورة إيجابية على سلوك الأفراد والمجتمعات. وتبعا لذلك يمكننا فهم الحديث النبوي الشريف: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاتُه عَن الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ فَلا صَلاةَ لَهُ».

يتحصل مما سبق أن النظر إلى الدين من حيث هو قيمة ملزمة لا يستطيع أحد أن يماري فيها، وحتى المناهجة الذين ينكرون العقائد الأخلاقية فإنهم، على الرغم من ذلك، لا ينكرون قوة التدين هذه. وكذلك البراغماتية التي تفاعلت تاريخيا في طرح ثري مع القوة الإلزامية والفعلية والقيمية التي يمتكلها الدين، وأفسحت المجال له في الحياة الواقعية.

ومن ثم فإنه يمكن من خلال هذه الزاوية النظر إلى الوظيفة الدينية عبر ثلاثة عناصر رئيسية تصب جميعا في المنبع القيمي، ألا وهي: الالتزام القيمي، والإشباع النفسي، وأخيرا قدرة الدين على تشكيل قوة تماسك آيديولوجي. أضف إلى ذلك أيضا أنه على الرغم من تعدد التعاريف المتعلقة بلفظة «دين»، فإنها تتفق جميعا على أهمية عامل التدين في الحياة العامة ودوره في صياغتها، حتى بالنسبة إلى أولئك الذين ينكرون أمره بالكلية! وبحسب ميشال برتراند، فإن الدين لا يعني فقط مجموعة من التمثلات والمعتقدات والممارسات الطقوسية والثقافية، وإنما هو أيضا مؤسسة اجتماعية، فضلا عن أنه تنظيم مادي (وروحاني في الأساس) لمجموعة بشرية. وبالتالي فإن الدين - من حيث إنه عبارة عن نسق من المعتقدات الفكرية - يمتلك قوة قيمية في حد ذاته، وذلك سبب نجاحه في التوحيد الآيديولوجي للجماعات عن طريق إرضاء حاجاتهم النفسية والشعور بالتماسك والمصير المشترك.

والحال أن الإسلام يعتبر «النفس» أو «القلب» محور الشخصية، فإذا صلحت وطهرت كانت الشخصية قوية، وإذا فسدت أو خبثت ضعفت شخصيتها وانحرفت عن جادة الصواب. وهو ما عبر عنه القرآن الكريم حين قال: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا»، ونفس المعنى نلاحظه بوضوح تام في قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «ألا إنّ في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله: ألا وهي القلب».

الدين بهذا المعنى يهب الإنسان كرامته الموفورة حين يوقظ فيه ضميره، بل ويجعله حكما في ما يعرض له من أمور الناس. ومن الحقائق الثابتة تاريخيا أن الإنسان لن يصل إلى وضع ينعدم فيه تأثير الدين في الأخلاق أو السياسة والعكس، إلا بانزواء الدين وانسحابه كليا من هموم الدنيا، أي من مسرح الحياة والكيان الإنساني، وهو أمر بعيد المنال - إن لم يكن مستحيلا أصلا - فالدين قوة روحية ثقافية اجتماعية، والسلطة الدينية سلطة روحية ثقافية اجتماعية. ولذلك تكتسب العقيدة الدينية، حتى في الدول المستقلة من الدين، موقعا يضارع الموقع الذي تحتله العقيدة الآيديولوجية.

*كاتب مصري