العلاقات الأميركية الإسلامية بعد عام من خطاب أوباما

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

ما خففت نبرة التفاؤل الزائدة عن كل حد في خطابات الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الدولي الذي عقد في مكتبة الإسكندرية تحت عنوان «مبادرات في التعليم والعلوم والثقافة لتنمية التعاون بين أميركا والدول الإسلامية» (في الفترة 16 ـ 18 يونيو)، من حدة اليأس العام الذي سيطر على أغلب المشاركين من خبراء الثقافة، والتكنولوجيا، والتعليم، ورجال السياسة والدين، الذين مثلوا أكثر من أربعين دولة عربية وأجنبية.

فمن بين المفارقات الكبرى التي شهدها المؤتمر، برزت في الأفق مفارقة أولية مفادها أن أغلب الخطابات التي شهدتها الجلسة الافتتاحية كانت «مفارقة» للواقع المشاهد، خاصة بعد الموقف الأميركي المتخاذل تجاه جريمة الاعتداء الإسرائيلية على «أسطول الحرية» في عمق المياه الدولية. ومن ثم؛ لم تنجح نبرة الحماسة الشديدة التي تحدثت بها السيدة فرح بانديث، الممثلة الخاصة للمجتمعات الإسلامية في وزارة الخارجية الأميركية، ولا كلمة الرئيس الأميركي باراك أوباما لجموع المؤتمرين - والتي ألقاها نيابة عنه مبعوثه الخاص لدى منظمة المؤتمر الإسلامي السيد رشاد حسين - لم ينجح كل ذلك في تلطيف أجواء المؤتمر الذي سادته حالة من خيبة الأمل بعد مرور عام كامل على الخطاب الذي وجهه أوباما إلى العالم الإسلامي من جامعة القاهرة في الرابع من يونيو (حزيران) العام الماضي.

ولعل أول ما كان لافتا للنظر (قبل، وأثناء، وبعد، إلقاء أوباما خطابه الذي وُصف آنذاك بـ«التاريخي»!) هو سيل التعليقات، والتحليلات، والبحوث، والدراسات، والمقالات، والبرامج، والتغطيات، التي استمرت لأسابيع وشهور كاملة! فمن قائل آنذاك إن الخطاب يعد بمثابة «نقلة نوعية» في تاريخ العلاقات الأميركية الإسلامية، ومن واصف أوباما بأنه «أبلغ الخطباء»، ومن مبشر بانتهاء عصر المحافظين الجدد، ومن مُركز على الخلفية الإسلامية التي قدم منها أوباما.. إلخ.

وكنت شخصيا أتعجب لهذا السيل المتدفق من الكتابات وأنظر إليه، ليس باعتباره علامة صحية كما كان يروج البعض، وإنما باعتباره مضيعة للجهد والوقت من جهة، واستعلاء وتجاوزا لجملة الاعتبارات المركزية الحاكمة لعلاقة الولايات المتحدة الأميركية بالعالم الإسلامي من جهة ثانية، وتضخيما من شأن أوباما - وهو في الأول والأخير فرد من ضمن المؤسسات الأميركية الحاكمة! على أي حال؛ لقد فضلت شخصيا أن يكون الواقع هو أبلغ رد عملي على كل تلك الدعاوى المفرطة في السذاجة والهشاشة والتفاؤل في آن معا. وبالفعل ما مرت أيام قلائل حتى بدا أن أوباما الذي وعد في يوم توليه الأول بإغلاق معتقل غوانتانامو غير قادر على إنجاز ما وعد! ثم توالت الأحداث ليفشل أكثر من مرة في إقرار قوانين تتعلق بإصلاحات اقتصادية، وحتى صحية! واليوم، وقد مضى على خطاب أوباما عام كامل، يبدو التساؤل التالي «ما الذي تحقق من وعوده على أرض الواقع؟» ملحا بدرجة أكبر مما كان عليه سقف التوقعات قبل وبعد خطابه «التاريخي»! في خطابه الذي وجهه إلى العالم الإسلامي؛ تحدث أوباما عن نهجه الجديد في إدارة العلاقة مع المسلمين، والتعامل مع مختلف القضايا التي تشغل العالمين العربي والإسلامي، بخاصة بؤر الصراع التي تشكل مصادر التوتر في تلك العلاقة. وبطبيعة الحال؛ كانت الإدارة الأميركية الجديدة قد ورثت عن سابقتها إرثا ثقيلا من الهموم توزع على كل من: العراق، وأفغانستان، وفلسطين، وإيران، وباكستان.. إلخ. وما كان من الطبيعي - ولا المعقول كذلك - أن يحل مجرد خطاب - مهما ارتفع منحى وعوده ومكتسباته - تلك الإشكالات كافة، بيد أن سقف التوقعات كان عاليا جدا (ربما لأننا كمسلمين قد مللنا أخيرا من الصراع والحروب والحديث المتكرر عن السلام من دون جدوى كذلك)، لكن في المقابل أصبح سقف «الخيبات» عاليا كذلك! الغريب في الأمر أن كلمة الرئيس أوباما التي وجهها لجموع المؤتمرين لم تحمل جديدا يذكر، وإنما أعادت ما سبق وشدد عليه من ضرورة العمل المشترك بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم وفق علاقة متينة مبنية على ما سماه «الاحترام المتبادل»، مؤكدا «إننا في إطار عملنا هذا من أجل مناقشة القضايا السياسية والأمنية التي كانت دائما محل توتر، يجب أن نعمل على عقد شراكات جديدة بين حكوماتنا وشعوبنا لبحث القضايا التي تهمنا في حياتنا اليومية؛ كالعيش بكرامة، والحصول على تعليم مناسب، والتمتع بصحة جيدة، والعيش في أمن وسلام، وأن نمنح أبناءنا مستقبلا أفضل! دعونا نعمل على خلق عالم مبني على المبادئ المشتركة في ما بيننا: العدالة، والنمو، والتسامح، والكرامة للبشرية جمعاء»! في كلمتها التي ألقتها بحماسة بالغة، أكدت السيدة فرح بانديث، المبعوث الخاص من وزارة الخارجية الأميركية للمجتمعات الإسلامية، أن المؤتمر يعد مبادرة غاية في الأهمية لمناقشة رؤية الرئيس الأميركي باراك أوباما في التعاون بين الولايات المتحدة والدول الإسلامية، مشيرة إلى أن جهود الإدارة الأميركية الحالية في خلق روابط مع الدول الإسلامية تأتي من الإيمان الكامل لأوباما في الالتزام بمخاطبة الدول الإسلامية وسماع أفكارها، وهو ما عبر عنه بحسبها، ليس فقط في خطابه للدول الإسلامية في القاهرة، بل وفي الخطاب الذي ألقاه لحظة توليه رئاسة الولايات المتحدة الأميركية.

وأكدت بانديث في المقابل أن سبل التعاون بين الولايات المتحدة الأميركية والعالم الإسلامي قد واجهت عددا كبيرا من التحديات يأتي في مقدمتها: الاختلاف في قضايا السياسة الخارجية بالنسبة لبعض الدول الإسلامية والشرق الأوسط، مشيرة إلى أنه على الرغم من وجود تلك العقبات فإن الإدارة الأميركية تدرك أهمية وقيمة التعاون مع الدول الإسلامية، وأنها بدأت بالفعل في تدشين عدد كبير من المبادرات على مستوى الأشخاص والمنظمات والحكومات للعثور على قواعد مشتركة لبداية الحوار والتصدي للعقبات التي تهدد نجاحه! على أن تلك النبرة المفرطة في الحماسة والتفاؤل لم تمر مرور الكرام لأنها تقفز بالفعل على معطيات الواقع. ففي المقابل من ذلك؛ أكد السفير هشام يوسف أن جامعة الدول العربية كانت من أوائل الجهات التي قامت بدراسة خطاب أوباما وبادرت بوضع عدد من المشروعات والمبادرات في مجالات التعاون التي طرحها الرئيس الأميركي في خطابه، لكن الحوار مع الجهات الأميركية لم يثمر عن شيء، ولم تتلق الجامعة العربية أي ردود حيال المشروعات المقترحة من جانبها! كما أوضح الدكتور عبد العزيز التويجري في كلمته أنه على الرغم من أن خطاب أوباما للعالم الإسلامي قد كشف عن توجه جديد للسياسة الأميركية في تسوية القضايا الخلافية في إطار المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، فإن ثقة العالم الإسلامي في الولايات المتحدة الأميركية لن تتجدد إلا بتغيير السياسيات الأميركية الخارجية، خاصة موقفها تجاه الصراع العربي الإسرائيلي وتحركها لإيقاف المعاناة المستمرة التي تفرضها إسرائيل على الشعب الفلسطيني.

على الجانب الآخر؛ نفى دبلوماسيان غربيان أن يكون الدين الإسلامي عدوا للنظام الدولي كما تروج بعض الأوساط اليمينية المتطرفة في وسائل الإعلام الغربية. حيث شدد السفير الكندي في القاهرة السيد فيري دي كيركوف - في ورقته التي قدمها للمؤتمر بعنوان «بعض الأسئلة عن الإسلام والغرب» - على أن الإسلام ليس معاديا للغرب، وأن ثمة فارقا شاسعا بين الجماعات المتشددة التي اختطفت الإسلام والمضمون العقائدي للدين الإسلامي.

وفي سياق حديثه عن قضايا الاندماج، استشهد السفير بالآية القرآنية الكريمة «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (البقرة: آية 62)، مشيرا إلى أن عبارة «وعمل صالحا» مهمة جدا في هذا السياق، لأنها تنطوي على معاني الاعتدال والتفاهم والتفاني، وأن الآية الكريمة تحمل فكرة أو قيمة إنسانية بسيطة ورائعة حيث تؤكد أنه بدلا من التركيز على ما يميز بين الناس من اختلافات، فإن ثمة ضرورة ملحة للدعوة إلى التعاضد والتآزر بين الناس جميعا على اختلاف مشاربهم وتنوع جنسياتهم وتعدد أعراقهم وتباين أديانهم.

وفي ورقتها التي قدمتها إلى المؤتمر تحت عنوان «التفاعل الثقافي (كمدخل) لتدعيم العلاقات بين أميركا والمسلمين»؛ تقترح السفيرة الأميركية السابقة في هولندا السيدة سينثيا بي شنايدر إنشاء بوابة إلكترونية ثنائية الاتجاه لتشجيع التعاون الثقافي بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي، مشددة على أن دور الثقافة في التفاهم والتقارب بين الطرفين - وبخاصة الثقافة الشعبية - يعد أكثر تأثيرا من السياسة، لافتة إلى أن الطلاب الأميركيين لا يدرسون الكثير في مدارسهم عن الشعوب الأخرى، كما أن عدد المبادرات الأميركية في مجال التعاون الثقافي والإنتاج المشترك يتضاءل مقارنة بالمبادرات الثقافية الأوروبية.

ما من شك في أن الثقافة عامل تغيير مهم وفعال في سياق دعم العلاقات الأميركية الإسلامية. لكنها أيضا سلاح ذو حدين، فالرؤى والطروحات المتداولة غربيا حول الإسلام الفاشي والحرب على الإرهاب والتخويف من الإسلام هي نتاج ثقافي كذلك. بمعنى أن للثقافة حقلها وللسياسة حقلها، وما يتم بناؤه ثقافيا في أعوام طوال من السهولة بمكان أن يتم القفز عليه بجرة قلم سياسي! هذا من جهة.

ومن جهة أخرى؛ يتطلب تغيير الرؤى والأنماط الثقافية المقولبة حول الآخر وقتا وجهدا كبيرا، والأمر على حالته البائسة الآن من تردي العلاقات وتواطؤ المجتمع الغربي مع الجرائم الإسرائيلية واستمرار حصار غزة وانتهاك إسرائيل لأبسط القواعد الدولية.. إلخ، لا يطيق انتظارا وإنما يتطلب حلا عادلا وعاجلا للصراع العربي الإسرائيلي وإنهاء فوريا لوقف بناء المزيد من المستوطنات وإحلال نظيرتها القديمة، والتصدي للمحاولات الإسرائيلية الدائبة لتهويد مدية القدس على حساب الوجود المسيحي والإسلامي بها.

أضف إلى ذلك أيضا أن تحسين صورة أميركا في العالم الإسلامي لا يتأتى بحملة علاقات عامة، وإنما بتغيير سياستها الخارجية تجاه قضايا العالم الإسلامي وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. لأن المواقف والسياسات الأميركية المتعلقة بتلك القضية هي السبب الرئيسي في اتساع الصورة السلبية عن الولايات المتحدة لدى قطاعات كبيرة في العالم الإسلامي.

فعلى الرغم من أن خطاب أوباما قد كشف عن توجه شكلي جديد للسياسة الأميركية في تسوية القضايا الخلافية، فإن ثقة العالم الإسلامي في الولايات المتحدة الأميركية لن تتجدد إلا بتغيير السياسيات الأميركية في المنطقة العربية بصفة خاصة، وبخاصة ما يتعلق بموقفها تجاه الصراع العربي الإسرائيلي وتحركها لإيقاف المعاناة المستمرة التي تفرضها إسرائيل على الشعب الفلسطيني.

وإلى جانب ما سبق؛ هناك بعد آخر ومهم لدعم العلاقات بين الجانبين يرتبط أساسا بدعم الولايات المتحدة الأميركية لحركات التغيير الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، والتوقف عن تقديم الدعم والرعاية لبعض الأنظمة الشمولية في المنطقة حفاظا على مصالحها وقواعدها العسكرية على حساب دعم عمليات الانتقال والتحول الديمقراطي. وفي كل الأحوال، يبدو أن الولايات المتحدة ستمضي قدما في دعم إسرائيل وبالتالي لن تغير من سياساتها الخارجية تجاه العالم الإسلامي، وستكتفي فقط بدعم مبادرات التعاون الثقافي، فيما يبقى المضمون الإمبريالي حاكما لما يجري على أرض الواقع! أما العالم الإسلامي؛ فحاله أقرب ما يكون لما كان عليه حال «المثقب العبدي» الشاعر الجاهلي الذي أنشد ذات يوم قائلا «فإما أن تكون أخي بحق، فأعرف منك غثي أو سميني/ وإلا فاطرحني واتخذني، عدوا أتقيك وتتقيني/ وما أدري إذا يممت أمرا، أريد الخير أيهما يليني/ آلخير الذي أنا أبتغيه، أم الشر الذي هو يبتغيني؟!».

* كاتب مصري