حول ظاهرة انتشار المساجد في تونس

TT

للمسجد دور مركزي في المدينة الإسلامية، وقد نشأت مكانته في قلوب المسلمين منذ عهد النبوة، حيث كان مهدا للوحي والحكمة النبوية، بل كان يمثل القلب النابض للحياة الإسلامية، إذ كان يحتضن أغلب شؤون الأمة من التعليم والقضاء والشورى، وتعقد فيه ألوية الجهاد وتؤدى فيه البيعة العامة. وكانت المساجد على مر التاريخ الإسلامي مراكز التعبد، وتحت أسقفها نشأت حلقات العلم ومدارس الكلام والفقه وأصوله والنحو والمعاني والبيان والتصوف والقراءات والفرائض والفلك والحساب، وكانت فضاءات حرة لتحفيظ القرآن الكريم وتربية الأجيال وترشيد العلاقات الاجتماعية، فالنفوس في المساجد - بيوت الله - تستحضر أكثر من أي مكان آخر ارتباطها بالله تعالى، الذي يستمد منه المسجد قدسيته، وسجل التاريخ فيها سِيَرا حافلة لعلماء أجلاء ملأوا الدنيا علما وخُلقا. إن علاقة المسلم بالمسجد علاقة وجدانية وشرعية، والمسجد في المجتمع الإسلامي خلية لا تهدأ ونور لا ينطفئ ومؤسسة لا تتعطل.

ولقد كان لجامع الزيتونة المعمور في البلاد التونسية دور كبير في نشر الإسلام، فهو ثاني الجوامع التي أقيمت بأفريقيا بعد جامع عقبة بن نافع بالقيروان، وكان يمثل أول جامعة علمية إسلامية، بل شكل دوره الحضاري والعلمي الريادة في العالم العربي والإسلامي، إذ اتخذ مفهوم الجامعة الإسلامية منذ تأسيسه ولعب دورا طلائعيا في نشر الإسلام والثقافة العربية الإسلامية، وساهم في تأسيس المذهب المالكي على يد علي بن زياد وأسد بن الفرات والإمام سحنون صاحب المدونة التي رتبت المذهب المالكي وقننته، كما خرج علماء أفذاذ من أمثال العلامة ابن خلدون والإمام المفسر ابن عرفة والشيخ محمد النخلي والشيخ إبراهيم الرياحي والزعيم عبد العزيز الثعالبي والعلامة محمد الطاهر بن عاشور.

ولقد لعبت المساجد دورا كبيرا في الحفاظ على هوية الشعب في تونس في مرحلة الاستعمار وساهمت في الحركة الوطنية، بل خرجت المقاومة من تحت أسقف المساجد، وكانت التعبئة الشعبية تتم بخطاب ديني من فوق منابرها. أما بعد الاستقلال فقد دخلت المساجد في عطالة حضارية ولم تعد تؤدي وظيفتها الاجتماعية ولا رسالتها الثقافية والتربوية، فقد أُغلق جامع الزيتونة وحُلّت الأوقاف وشهدت البلاد التونسية في الحقبة البورقيبية تمكينا للفكر الغربي والإلحاق الحضاري، وعداء للدين يصل إلى حد الاستخفاف بشعائره.. إلى أن تداركها الله برحمة منه لإعادة الاعتبار لهذه المؤسسات المهمشة وإعادة الحياة إليها.

وتشهد اليوم المساجد في البلاد التونسية انتشارا كبيرا، وهناك اتساع اجتماعي واضح لهذه الظاهرة، وعدد المساجد في ارتفاع مطرد بين الترميم والتوسيع والتشييد الجديد، وقد شهدت انتشارا في كل المدن والقرى وشملت الأحياء الشعبية والراقية، ويؤمها المصلون من كل الشرائح الاجتماعية والعمرية، وخصوصا في صفوف الشباب. وهي تعبر عن انتشار ظاهرة التدين والإقبال على القيم الإسلامية رغم العوائق الكثيرة. وقد ساهم في بنائها المواطنون بترخيص وتزكية من السلطة الحاكمة. إن المساجد في تونس يمكن أن تلعب دورا كبيرا في تأطير الشباب المقبل على التدين والتائق لحياة إسلامية وعلاقات طاهرة، كما يمكن أن تقوم بدور كبير في ترسيم الاعتدال التونسي المستند إلى المدرسة الإصلاحية التونسية من حيث الالتزام بمحكمات الشرع وثوابت الوحي ومقتضيات العصر والانفتاح على الحداثة. إن هذه المهام تحتاج إلى خطاب ديني عميق وجذاب ولا ينفر ولا يبتعد عن هموم الناس وواقعهم الاجتماعي وقضايا الأمة من غزة إلى العراق وأفغانستان، وحتى لا يقع في مسالك الغلو الذي لم يتشبع بالعلوم الشرعية التي تستند إلى الفكر الوسطي باعتماد المقاصد الشرعية، والملاءمة بين الثوابت والمتغيرات وفقه الأولويات والموازنات وفهم السنن أمام طغيان السوق وأخطار التنميط الثقافي والعولمة.

إن الخطاب الديني السائد ما زال لم يرتقِ إلى هذا المستوى رغم ثراء التراث التونسي والمدرسة المالكية رافعة لواء العمل بالمصالح المرسلة وسد الذرائع، ووجود أعلام كبار في الاعتدال والوسطية من المدرسة التونسية من أمثال العلامة محمد الطاهر بن عاشور. إن شباب الصحوة في تونس - وهو تيار غير منظم - متأثر اليوم بما تبثه الفضائيات التي وإن ساهمت في الدعوة فإنها أفرزت تنوعا في المرجعيات الفقهية وتعددا في المظاهر والسلوك وأداء الشعائر بما لم تألفه البلاد التونسية التي ساد فيها المذهب المالكي، وهذا ما يؤكد أهمية إيجاد خطاب داخلي يراعي الخصوصية التونسية وضرورة توسيع دائرة الاستفادة من كوادر الجامعة الزيتونية أمام تعدد مصادر التلقي ووسائل الإعلام المتنوعة، وهو ما أدخل عناصر جديدة في تشكيل ظاهرة التدين في تونس.

*كاتب وباحث من تونس