القراءات الأخلاقية للأديان وموقع الإسلام منها

TT

انفصلت البحوث والفلسفات ذات الطابع الأخلاقي عن الدين في أوروبا منذ القرن الثامن عشر. واشتهرت في هذا المجال فكرتان أو فلسفتان، نُسبت الأولى إلى الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط تحت اسم أخلاق الواجب، ونُسبت الأخرى إلى التجريبيين الإنجليز والوضعيين الفرنسيين تحت اسم الحق الطبيعي أو مقتضيات الطبيعة الإنسانية. وبلغت تلك الأخلاق العلمانية الذروة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. بيد أن النهوض الديني بعد الحرب العالمية الثانية أعاد سؤال علاقة الأخلاق الفردية والجماعية إلى الواجهة، لدى البروتستانت أولا، ثم لدى الكاثوليك. وكان هناك من انصرف لدراسة التأثيرات المسيحية واليهودية على الفلسفات الأخلاقية حتّى في ذروة تعمْلُق العلمانيات بعد حدوث الثورة الفرنسية. وكان من ضمن تلك العودة ظهور مقولة «الأخلاق العالمية» على يد المفكر الكاثوليكي الليبرالي هانز كينغ، الذي جعلها نتاج عدة مقولات أو قضايا متسلسلة: لا سلام في العالم دون حوار بين الأديان، ولا حوار بين الأديان إلاّ باعترافات متبادلة، ولا اعترافات متبادلة إلاّ بإبراز القواسم المشتركة، ولا قواسم مشتركة بين الأديان إلاّ بسواد فكرة الأخلاق العالمية.

وقد صار مسلَّما في العقود الأخيرة من السنين أن البحث عن التلاقي - وليس عن الافتراق شأن علمانيات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر - إنما يحدُث في مجال القيم الأخلاقية. ولذلك تنافس أهل الأديان في تقديم القيم الأخلاقية التي يدعو إليها أو يحملها الدين الذي يعتنقونه، وكان أبرز الداخلين في هذا المجال كل من الديانات الآسيوية، والدين الإسلامي. ومما له دلالته أن البحوث النقدية التي وجّهها المتدينون إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان جاءت في أكثرها من معتنقي الديانات الآسيوية وبخاصة البوذية، والمسلمين. وقد اعتاد كل فريق على قراءة الإعلان السالف الذكر مادة مادة، وإبراز ما يقابلها في دينهم، ثم إضافة قيم ناقصة في الإعلان موجودة في ذلك، وقد تضاف فلسفة تقديمية أو ختامية تثبت الاختلاف أو التلاقي.

وقد تردد المسلمون طويلا - شأن الكاثوليك - في الدخول في هذا المجال، استنادا إلى المسلَّمة القائلة إن القيم الأخلاقية لا يمكن أن تتأسّس في المجال الفردي أو الجماعي إلاّ على الدين. والحديث حتّى عن التلاقي أو التناظر أو المقارنة، إنما يشكّل اعترافا بالفلسفات الأخلاقية العلمانية، وتنكُّر المنظومة الأخلاق الإسلامية. لكن مع شيوع القراءات الأخلاقية للأديان، تجاوز المفكرون المسلمون المحدَثون لحظات التردد والتنكر وأقبلوا على نوع من القراءة الأخلاقية للدين الإسلامي، أو للقيم الأخلاقية الكبرى فيه، في ما وراء الأخلاق الفردية والتربوية. وكان من أوائل من قاموا بذلك الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه عن مقاصد الشريعة، والشيخ محمد عبد الله دراز في كتابه «دستور الأخلاق في القرآن».

والواقع أنه مع بروز هذا الوعي الجديد، إجابةً على تحديات الحداثة، تنبّه المسلمون إلى وجود قراءة أخلاقية كبرى في موروثهم الفكري والفقهي والأصولي قام بها بعض الفقهاء، ووجدت تجلّيا واضحا لها في القرون المتأخرة في كتاب الشاطبي (790هـ) المسمّى بـ«الموافقات في أصول الشريعة». والشاطبي لا يتحدث عن تلك القيم باعتبارها فلسفة للتشريع - كما سمّاها الراحل صبحي المحمصاني - بل يعتبرها ضرورات أو مصالح ضرورية، استقرأها من القرآن الكريم والكليات والقواعد الأصولية. وهي عند الشاطبي: قيمة النفس (أو الحياة) باعتبار أن إنسانية الإنسان قيمة بحدّ ذاتها. والقيمة أو المصلحة أو الضرورة الثانية هي العقل، والضرورة الثالثة هي الدين، والضرورة الرابعة هي النسل أو الأسرة، والضرورة الخامسة هي التملّك. وأضاف إليها الطاهر بن عاشور في كتابه السالف الذكر: قيمة الحرية أو ضرورتها. وفي العقود الثلاثة الأخيرة ظهرت عشرات الدراسات التي تُعنى بتجديد علم أصول الفقه أو الشريعة، استنادا إلى المقاصد أو الغايات النهائية للدين والتشريع. ولا ينبغي في هذا المجال الإسراف في التأكيد على الوعي المختلف أو المستجدّ؛ لأن الإسلاميين إنما نظروا إلى هذه الضرورات باعتبارها قواعد لاستنباط الأحكام الشرعية في كثير من الأحيان. إنما الذي يدلّ على الوعي الجديد أو على القراءة الأخلاقية للروح أو للنصوص عناوين بعض البحوث مثل التعليل بالحكمة، ومثل القيم الأخلاقية الكبرى في العبادات أو المعاملات، ومثل صنيع من سمّى دراسته: القيم الأخلاقية في القرآن أو دستور الأخلاق في القرآن.

لقد جاء تخوف المحافظين من الإسلاميين من مباحث المقاصد في البداية باعتباره يمكن أن يشكّل تجاوزا للنصوص، وبخاصة أن بعض الإصلاحيين ركّز على مباحث المقاصد لنقد الاقتصار على الطريقة القياسية في استنباط الأحكام. لكنّ المتأثرين بالقراءات الأخلاقية للديانات الأخرى، قصدوا لذلك عامدين، وما هدفوا من وراء بحوثهم التعرض للمناهج الفقهية. إضافة إلى أن بعض الباحثين ذهبوا إلى أن كلّ الأحكام تتضمن أهدافا وغايات أخلاقية. ومن ضمن هؤلاء - من غير الفقهاء - مَن اعتبر مباحث المقاصد حديثا في الفلسفة الكبرى للدين الإسلامي، وبخاصة أن الآيات القرآنية تتحدث عن ذلك صراحة، مثل: «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ»، و«إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً»، و«مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»، و«لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»، و«اسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ».. إلخ.

وإذا كان هناك من ذهب إلى أن الضروريات عند الشاطبي إنما هي قيم أخلاقية، فإن هناك من ذهب إلى أن الإسلام (والقرآن) يتضمن خمس أو ستّ قيم أخلاقية عامة، هي: المساواة والحرية والرحمة والعدل والخير العام والاحتساب. ولكلّ قيمة من هذه القيم متفرعات، يدخل بعضها ضمن الأخلاق، وتترتب على بعضها الآخر أحكام فيسود القيمي منها في السلوك، ويسود الحكمي منها في التصرفات أو المعاملات مع الآخرين. وقد كان السوسيولوجي الألماني المعروف ماكس فيبر قد رأى إمكانية أن تكون «أخلاق العمل» في الكالفينية البروتستانتية المتشدّدة، من بين أسباب الظاهرة الرأسمالية في المواطن التي كان البروتستانت أكثرية فيها، أو كانوا مسيطرين فيها على الاقتصاد. وفائدة هذا الاستطراد هنا أن القيمة السادسة في المنظومة السالفة الذكر هي الاحتساب. والاحتساب قيمة شعورية تقارن النية، وهكذا فإن الرحمة - وهي من صفاته عزّ وجلّ - في الخُلق والتصرف عند المسلم تصبح قيمة احتسابا، وكذلك العدل والخير العام. فهذه القيم عند المسلم ليست نفعية، أي لا تكون لها في الغالب نتائج مباشرة مفيدة أو نافعة لصاحبها في هذه الدنيا، بل إنه إنما يحتسبها عند الله عزّ وجلّ.

ما فائدة هذه القراءة الأخلاقية للدين أو للإسلام؟ إن لها قيمة ذاتية بالفعل لأنها تأتي ضمن الفضائل أو الأخلاق الفاضلة. ثم إن إبراز هذه المنظومات مفيد في الحوار العالمي الجاري، الذي يجري فيه البحث عن القواسم المشتركة، وعن المشاركة. فالإسلام ديانة عالمية، والمسلمون جزء أساسي بين سكّان العالَم، وهم يتحملون أعباء ومسؤوليات الدعوة والرسالة، وبذلك فهم يشاركون أو يسهمون بإيجابية في تقدم الإنسانية وأمنها وسلامها.