الخطاب الثقافي العربي بين العمق والتسطيح

TT

هناك فرق بين النقد والانتقاد، كما هو الفرق بين التقييم والتقويم، وفي نفس السياق نفرق بين النظرية والتطبيق، وبين العمق والتسطيح، ومن هذه الفروق التي تعلمناها من القرافي رحمه الله أن نميز ونمايز بين الشيء ونقيضه، والشيء ورديفه، والشيء وشبيهه، وما تاه خطابنا الثقافي العربي إلا بعدما خلطنا الأمور، وسطحنا المسائل، فوصلنا إلى ما نحن فيه من واقع لا يسر الصديق ولا يفرح به القريب.

من حقنا أن نتفكر في واقعنا الفكري وخطابه الثقافي الذي يشكل حلقة الوصل بين المتكلم والمخاطب، فنحن حينما ننقد فلسفة كونية وخلقة بشرية ودوافع شرعية، ولكننا يجب ألا نفتعل النقد فنكون في سلك المنتقدين، ومن ثم نقيم الخطاب بناء على رصد واستقراء مع قدرة على التحليل والغوص في أعماقه منذ مبدئه وحتى هدفه، وذلك لتقويم الاعوجاج الذي أمسى قدرنا الطائل عمره والمتكرر فينا حين حفظناه لا لنتلافاه كالمؤمن الذي لا يلدغ من جحر مرتين وإنما نحفظه لنعيده كما كان حذو القذة بالقذة.

ألسنا نرى خطابنا الثقافي العربي يسبح في السواحل وبعيدا عن المحيطات فضلا عن أعماقها وأسرارها، ولذا نجد التنظير أجوف لا يعي واقعه، في حين نرى التطبيق نادرا وفي غالبه لا يحقق المتون وإنما على الهوامش يسرحون، فنمر في اليوم والليلة على مئات الصفحات الورقية والإلكترونية نبحث عما يفيد ويزيد فلا نرى غالبا سوى التسطيح والتكرار.

وقد قالها الجابري رحمه الله «إن الخطاب العربي الحديث المعاصر لم يسجل أي تقدم حقيقي في أي قضية من قضاياه منذ أن ظهر كخطاب يبشر بالنهضة ويدعو إليها»، ولكن لا يعني هذا القول النظرة السوداوية للواقع، وفي نفس الوقت لا يعني تجريد وجحود الجهود الخطابية العربية التي شاركت في نمو العقل العربي والتطور الفكري خلال هذه الحقبة على محدوديته، ولا تجوز المزايدة على الأسباب بدوافع فكرية مؤدلجة، لأن الجميع مشترك في هذه النتيجة الخطابية.

ومن أخطر التوجهات ربط كل الخطابات الفكرية بالجانب الديني المحض، في حين أن أكثر تلك الجهود له علاقة بالدنيا، وبالتالي ارتباطها بالإسلام العام وليس بالدين الخاص، وهذا يمكن فهمه حينما ندرس مثلا مصطلح «الأدب الإسلامي»، فإن كان المقصود الأدب الديني فهذا شيء محدود ولا يمكن قصر الأدب عليه، وإن كان المقصود الأدب الذي لا يخالف الدين فهذا شيء مفهوم ومسلم به، وعليه فكل ما خالف الإسلام فلا يعد أدبا إسلاميا، وما لم يخالفه فيعد كذلك ولو لم يكن دينيا، وعلى ذلك فيدخل فيه الكثير من المنتجات الأدبية بشتى أنواعها ومرجعيات أصحابها ما دام المنتج لا يخالف الإسلام.

ولذا فمن المزايدة القفز على حقائق الواقع الخطابي العربي، وتحميل جهة دون أخرى المسؤولية عن الواقع المتردي للخطاب، فضلا عن اتهام الآخر بأنه قد وقع في إخلالات منهجية وإخفاقات أخلاقية، وجميع هذا بلا دليل، في حين نجد أن نفس هذا النقد الخطابي لم يقدم للواقع الثقافي سوى المزيد من التردي في الأدوات والفشل في المنتجات وفي الأخير يحمل المسؤولية للطرف الآخر.

كنا خلال العقدين الماضيين نجد الكثير من النقد المتبادل بين الخطابات الثقافية الميدانية، ولكننا لاحظنا في كثير من الأحيان قيام الناقد بمثل خطاب المنقود، وربما أضاف القداسة على خطابه، مما زاد في فشله، حينما حمل مرجعيته السبب ليخرج نفسه منها، ومعاذ الله أن نخطئ نحن ونحمل مرجعياتنا المسؤولية، فالحق واحد ولو تعددت طرقه وتنوعت صوره، ولكن أين نحن من قول الحق تعالى «قل هو من عند أنفسكم»؟!.

إن التشويه المؤدلج لخطاب الآخر حرمنا الكثير من المنافع خلال الفترة الماضية، وقصر رؤيتنا على متكررات فكرية ومتماثلات خطابية أوصلتنا إلى مفاصلة بين الأخ وأخيه بلا مبرر نقلي ولا مسوغ عقلي، سوى أن العقول رهنت للغير وسلمت الإرادات لبشر يصيبون ويخطئون، فحجر على الآخر وشوهت سمعته دون أن يعدل في خطابه وتؤخذ خيراته، وكل ما في الأمر أننا لم نحسن فهمه ولم نحسن الظن فيه، وكم حرمنا من قدرات بشرية غير عادية وضاعت الكثير من الفرص الفكرية بدوافع مؤدلجة أفسدت الفكر والثقافة، وأصبح الواحد منا لا يقرأ وهو متجرد للحق، وإنما في عقله اللا واعي قد قرر موقفه من المتكلم وعزم على مناكفته وليس الاستفادة منه، فأصبح المتلقون كالقطيع، لا يقرأون إلا ما يصرح لهم به، ولا يفهمون الآخر إلا بأدلجات مسبقة، قد قرروا مقاومته قبل أن يقرأوا فكرته، في حين يتكرر في تلك المحاضن أن الحكمة ضالة المؤمن، ولكنها في الحقيقة حكمة المريد من شيخه، فلا يكاد يخرج عن طريقه المرسوم قيد أنملة، وإن خالف البرمجة فالويل له والثبور وعظائم الأمور، وقد يتلوها فقدان الثقة فيه وربما الحكم بضلاله لمجرد أنه خرج عن النسق الممنهج.

وعلى نفس الطريق نجد أن التيارات الإسلامية تجيز لنفسها أن تنقد أفرع ذات التيار فضلا عن التيارات القومية وغيرها، في حين لا يجيزون لغيرهم من داخل التيارات الإسلامية النقد المقابل ومن باب أولى نقد خارج التيار لهم، حيث سموا أنفسهم بالإسلاميين ومن ثم تملكوا الحق المقدس في الكمال والعصمة، وعلى ذلك نجد أن التيارات الإسلامية تعاني من ذات المشكلة الخطابية، وبالتالي لا يستطيعون السماح بالنقد الذاتي لأنهم سيناقضون أنفسهم حينما صدقوا تلك التسميات والأدلجات التي ما أنزل الله بها من سلطان.

ومن ذلك مثلا شعار «الإسلام هو الحل»، حيث هربوا إلى الأمام بدلا من تكريمهم لهذه المصطلحات وعدم تدنيسها بممارسات اجتهادية لا يجوز إضافتها للمقدسات، ولو سلمنا بأنه لا مشاحة في الاصطلاح فيبقى أن الإسلامي في العالم العربي لا يقبل النقد بشكل سهل كغيره، وخصوصا إذا كان من خارج التيار، لأنه أغرق نفسه وضللها بمثاليات وعصمة لا يمكنه الانفكاك عنها، وبالتالي تجد أن من ينقدون بعض الممارسات الفردية لبعض المنتمين لتلك التيارات يوصمون بالمنافقين وغيرها من الأوصاف، لأنهم يحسبون أنفسهم الممثلين الشرعيين للحق، وغيرهم ما هم إلا ضالون.

ويفتخر الكثير من الجيل الجديد بأنهم نشئوا في هذا التيار، دون أن يعوا الكثير من حقائقه، والتي كانوا فيها أشبه بالمختطفين دون شعور، وحينما يصحو الواحد منهم فكأنه أتى ناقضا من نواقض الإيمان، وإذا أردنا أن نعرف لماذا التيارات الإسلامية لم تحقق الحد الأدنى من المكاسب بالنظر لطول تاريخها ومستوى جهودها، فنعرف حينئذ أن الفرد قد خطف الفكرة وحجر على البقية، وإذا أردنا الحق فلنحاول الابتعاد الوجداني المؤقت إلى الخارج، ومن ثم النظر لهذه التيارات الإسلامية بعين الناقد المحب وليس المبغض، لنرى مستوى التكلسات الفكرية المتوارثة التي رسخت في القناعات أمورا لا يمكن لعاقل أن يقبل بها، ونكتشف أن التحزبات الحركية قد خطفت الحق وغيبت الحقيقة لمصلحة الجماعة على حساب المجتمع الذي يزعمون قيامهم من أجله، وإن المتابع للواقع الخطابي الثقافي لهذه التيارات يعرف كيف طوعت الهدف المقدس لصالح تلك التنظيمات على حساب الهدف المزعوم، ونصيحتي لهؤلاء ألا يضفوا القداسة الشكلية والموضوعية على تصرفاتهم الفردية والجماعية، وحسبنا قوله عليه الصلاة والسلام «وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا».

* كاتب سعودي