دعوة الأمير تشارلز والرؤية الدينية في حماية البيئة

TT

واصل الأمير تشارلز، ولي عهد بريطانيا، دعوته إلى الحوار بين أتباع الأديان، عبر تفعيل القيم الدينية ودفعها إلى واجهة التفاعل الحضاري المعاصر، وصولا إلى تعاون إنساني شامل، خاصة في مجال حماية البيئة ورعايتها في مواجهة الانتهاكات التي يرتكبها الإنسان في حق الأرض وتوازنها الطبيعي.. والمنبر الذي اختاره الأمير تشارلز كان مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، وهو موقع أراد منه ولي عهد بريطانيا أن يطل على العالم الإسلامي وعلى المسلمين في الغرب، ليبعث رسالة تميز وتفهم للإسلام من موقعه في التاج البريطاني، وفي الكنيسة الأنجليكانية، خاصة في ضوء حضور الأمير محمد بن نواف بن عبد العزيز، سفير خادم الحرمين الشريفين لدى المملكة المتحدة، والأمير تركي الفيصل، رئيس مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث، مع التوقف عند أهمية التلاقي مع المملكة العربية السعودية.

دعا الأمير تشارلز، ولي عهد بريطانيا، العالم بأسره إلى الاقتداء بالتعاليم الإسلامية، في إطار الجهود الرامية إلى المحافظة على البيئة، لأن تدمير البيئة من قِبل الإنسان يتنافى والتعاليم الدينية، خاصة في الإسلام، مضيفا أن العالم يواجه الكثير من المشكلات ذات الصلة بالبيئة والتغير المناخي، وأشار في هذا السياق إلى أن البشر دمروا على الأقل 30 في المائة من غابات العالم الاستوائية، محذرا من أن استمرارية التدمير بهذا المعدل سيؤدي إلى وضع مضطرب بحلول العام 2050.

وقال الأمير تشارلز، في خطابه الذي تمحور حول موضوع «الإسلام والبيئة»: «إن الممارسات التي أدت إلى تدهور البيئة تتجاهل التعاليم الروحية، مثل تلك التي جاءت في الإسلام».

وشجب ولي العهد البريطاني غياب البُعد الروحي في النموذج الاقتصادي المعاصر القائم على الاستهلاكية.. وبعد تسليطه الضوء على تعاليم الإسلام الداعية إلى تحقيق الانسجام بين الإنسان وبيئته، أشار الأمير إلى أن القرآن الكريم يؤكد الرابط الوثيق بين الإنسان والطبيعة.

وأضاف: أن «القرآن يقدم رؤية متكاملة للكون؛ حيث الدين والعلم والروح والجوهر تتضافر مكتملة لتشكِّل جزءا لا يتجزأ من وعي حي واحد»، مؤكدا أنه، انطلاقا من هذا الأمر، يبقى الإنسان المسؤول على ضمان الحفاظ على الطبيعة.

وبعد استشهاده ببعض الآيات القرآنية، أوضح الأمير تشارلز أن التعاليم الإسلامية تقدم الطبيعة والكون بوصفهما جزءا من «الكرم الإلهي» تجاه الإنسان، داعيا للعودة إلى القيم التقليدية للمحافظة على البيئة، مشيرا إلى أن «نمط العيش التقليدي في الإسلام يسعى أساسا إلى الوسطية، بوصفها نموذجا يتيح الحفاظ على التوازن في العلاقات»، مضيفا أن الإسلام حذر من أن هناك حدودا لعطاء الطبيعة، وقال: «إن الأمر لا يتعلق بحدود تعسفية، بل حدود وضعها الله، ولا ينبغي للمؤمنين تخطيها»، مؤكدا أن العصر الذهبي للحضارة الإسلامية (القرنين التاسع والعاشر) تميز بتقدُّم علمي مذهل، من خلال فهم فلسفي متجذر في روحانية عميقة لاحترام الطبيعة.

وواصل ولي العهد البريطاني قائلا: «إن الأمر يتعلق برؤية مندمجة للعالم تعكس الحقيقة الأبدية، التي تعني أن الحياة متجذرة في وحدانية الخالق، مشددا على أهمية مفهوم التوحيد، الذي يعني وحدانية الله، متوقفا عند حقيقة أن علماء المسلمين يفسرون هذه الرؤية بشكل واضح، مستشهدا بابن خلدون، الذي قال إن جميع المخلوقات تخضع لنظام واحد ومنضبط».

وأشار الأمير تشارلز إلى أن العالم الإسلامي يملك أحد الكنوز الغنية بالحكمة والمعرفة الروحية التي وضعت رهن إشارة البشرية. وأشار إلى أن ذلك يمثل في الآن «إرثا نبيلا للإسلام، وهدية ثمينة لباقي العالم»، مقرا بأن هذه «الحكمة يحجبها الاتجاه المهيمن للمادية الغربية».

من جهة أخرى دعا الأمير تشارلز علماء الشريعة والشعراء والفنانين والحرفيين والمهندسين وباقي العلماء المسلمين إلى «تحديد الأفكار والتعاليم والتقنيات العملية التي تشجعنا جميعا على العمل يدا في يد من أجل الطبيعة وليس ضدها».

وقال الأمير تشارلز: «إنني أدعوكم كي تبينوا لنا كيف يمكننا الاستلهام من الفهم العميق للثقافة الإسلامية إزاء عالم الطبيعة؛ لمساعدتنا على رفع التحديات الجسيمة التي نواجهها».

كما أعرب ولي عهد بريطانيا عن قناعته بأن مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، الذي نظم هذا اللقاء، سيكون مؤهلا لإحداث منتدى حول «الإسلام والبيئة»، وسيسهِّل الكثير من المقاربات الأخرى العملية للتوصل إلى إجابة أمام هذه التحديات، معددا نماذج من تعامل العالم الإسلامي مع البيئة، من خلال شبكات الري في الأندلس أو مناطق المحميات (الحرم المكي والحرم النبوي) في المملكة العربية السعودية، للمحافظة على الحياة الفطرية.

تعاون الأديان: ركزت كثير من وسائل الإعلام ذات الاتجاه الإسلامي على وجه واحد من كلمة ولي عهد بريطانيا، حيث تم تغييب حديثه عن فكرة تعاون أتباع الأديان عن كثير من المواقع الإسلامية التي اكتفت بذكر إشادة الأمير تشارلز بالإسلام وموقفه من البيئة، وهو أمر يجدر التوقف عنده، بل مراجعته باعتباره نقصا في الأداء المهني من ناحية، واستنسابا في قبول طروحات الآخرين، وحجبا للأفكار التي ربما تمثل تحديا لبعض الجهات الإسلامية، لناحية ضرورة تأمين هذه الجهات إجابات واضحة حول قضايا التنمية والعلاقات مع أتباع الأديان الأخرى.

من هنا تصبح مفيدة قراءة كلمة ولي العهد البريطاني بشكل متكامل، والوقوف بالتحديد عند دعوته لتعاون أتباع الأديان، حيث دعاهم إلى إعادة التواصل مع تعاليمهم المقدسة بشأن قضية البيئة، وقال إن جميع الأديان السماوية راسخة في فهم الحقيقة التي تقول إن الإنسان جزء من الطبيعة وليس بعيدا عن الطبيعة، موضحا أن «هذه التعاليم جلية وواضحة أيضا في اليهودية وفي المسيحية». وأشار إلى أن هذا الفهم تم التعبير عنه بصورة جيدة في كتابات الشعراء والعلماء المسلمين، والشعراء الغربيين أيضا، مثل الشاعر الإنجليزي وردزورث.

وفي محاولته جذب الانتباه إلى ما يوحد بين أتباع الأديان بدلا من التفريق بينهم، قال الأمير تشارلز: إن أوجه الشبه أكثر من أوجه الاختلاف في النهج الذي تتبعه مختلف الأديان، لافتا الانتباه إلى أنه من الخطأ النظر إلى التقاليد والحكمة التقليدية «للنوع الموجود في تعاليم الأديان العظمى في العالم» على أنها تخلف ونظر إلى الوراء، مؤكدا أنه يؤمن أن هذه النظرة غير صحيحة، وأن التقاليد هي تراكم المعرفة والحكمة التي ينبغي توريثها للأجيال القادمة.

مجال البيئة والتنمية: في لبنان، شهد السراي الحكومي مؤتمرا حمل عنوان «الدين والبيئة في لبنان» في ?? مايو (أيار) ????، افتتحه الرئيس فؤاد السنيورة، وذلك بالشراكة بين لجنة البيئة النيابية وجمعية الثروة الحرجية والتنمية AFDC واللجنة الوطنية للحوار الإسلامي - المسيحي، والاتحاد العالمي للأديان والبيئة وهيئة السكينة الإسلامية.

وفي شهر يوليو (تموز) 2009 انعقد في إسطنبول مؤتمر «الإسلام والبيئة» بدعوة من «مركز حوار الأرض»، بالتعاون مع جامعة الفاتح، وشارك فيه عشرات الشخصيات الإسلامية من مختلف أنحاء العالم، أبرزهم مفتي مصر، الشيخ علي جمعة، والعلامة يوسف القرضاوي، والشيخ سلمان العودة، والشيخ راشد الغنوشي.. ومن لبنان شاركت «هيئة السكينة الإسلامية»، وقدمنا باسمها ورقة عمل تنفيذية حول دور المؤسسات الإسلامية في حماية البيئة.

وفي الأول من سبتمبر (أيلول) 2009 أطلقت «هيئة السكينة الإسلامية»، بالتعاون مع بلدية طرابلس «النداء الأخضر»، بمشاركة الجمعيات والحركات الإسلامية والمجتمع المدني في طرابلس والشمال، وشكل النداء سابقة في العمل الإسلامي التنموي، ونأمل أن نتقدم بمزيد من الخطوات العملية في هذا الاتجاه.

في المقابل شهد الخطاب الديني المسيحي تطورا نوعيا لافتا عندما خصص البابا بنيديكتوس السادس عشر رسالته التقليدية في رأس السنة الميلادية 2010 لدعوة الناس إلى الحفاظ على السلام، وحماية الخليقة، وتعديل أنماط حياتهم، من أجل إنقاذ الأرض والبشرية، معتبرا أن المسؤولية البيئية ضرورية للسلام العالمي.. وفي لبنان كرر البطريرك الماروني مار نصر الله صفير في أكثر من مناسبة مضمون رسالة البابا، كذلك ألقى المطران إلياس عودة متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس، صباح الأول من يناير (كانون الثاني) 2010، عظة، دعا فيها إلى تغيير نمط عيش الناس، والتصرف بذكاء من أجل بيئة حية..

ولاستكمال هذه الخطوات لا بد من عقد مؤتمر تأسيسي حول كيفية تطوير الخطاب والأداء الإسلامي - المسيحي تجاه البيئة اللبنانية، يشمل الرؤية التأصيلية والخطوات التفصيلية، وذلك لإدخال مفاهيم التنمية من منظور ديني في منظومة التنمية الوطنية، سواء لجهة التوعية في الخطاب الديني، أو لجهة اعتماد سياسات صديقة للبيئة في المؤسسات الدينية والأراضي التابعة لملكيتها، فضلا عن التأثير على جمهور المؤمنين، ودفعهم نحو نصرة بيئتهم وحمايتها..

السياحة الدينية: وما يصح من تعاون إسلامي - مسيحي في مجال البيئة، يصح حكما في مجال السياحة الدينية، حيث يمكن الوصول إلى تفاعل حضاري مهم، على المستوى المحلي، عبر التعريف المشترك للأماكن الدينية الإسلامية والمسيحي، وعلى المستوى الخارجي تفعيل دعوة الرئيس سعد الحريري لقداسة البابا لتنشيط السياحة الدينية، الأمر الذي يسهم ليس فقط في تنشيط الحركة السياحية والاقتصادية، بل في تفعيل التلاقي اللبناني بأطيافه الدينية المختلفة وتعزيز ثقافة العيش المشترك.. ولعل من المفيد في هذا المجال البدء من الشمال، حيث تتكاثر فيه المواقع الدينية المقدسة، من وادي قاديشا إلى المدينة الإسلامية القديمة في طرابلس، حيث سيشكل مؤتمر حول السياحة الدينية في الشمال، بمشاركة المراجع الدينية والبلدية، مناسبة مهمة لإعادة صياغة الرؤية الحضارية للوجود الإسلامي والمسيحي، وكيفية التوصل إلى التعاون لنشر ثقافة التلاقي والعيش المشترك، ولتفعيل الجوانب السياحية والاقتصادية.

السلامة العامة: في مجال السلامة العامة والتخفيف من حوادث السير يصبح الخطاب، بل والفتوى الدينية بتحريم السرعة والتهور وقتل النفس وإيذاء الآخرين، أكثر من ضرورة للمساهمة في تخفيف وطأة الحوادث اليومية على جمهور المؤمنين الذين يتساقطون على الطرقات ليل نهار.. (أتم الكاتب إنجاز كتاب «السلامة العامة في الإسلام» وهي من الدراسات التأسيسية لخطاب إسلامي معاصر للتوعية بمخاطر الجنوح والسرعة وعدم التزام القوانين).

وفي مجال الدمج الاجتماعي للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، يتلاقى الموقفان الدينيان الإسلامي والمسيحي على ضرورة احترام هذه الشريحة وإعطائها حقوقها الإنسانية والقانونية، ومن المؤكد أن للخطاب الديني موقعه الفاعل في المساهمة بالدمج لفئة تحتاج رعاية معنوية، يقدر حاجتها للرعاية المادية.

مكافحة المخدرات وسائر أشكال الانحراف الاجتماعي: من الجهود التي تبذلها المؤسسات الدينية في مواجهة تعاطي وترويج المخدرات وخطرها على الشباب، ومن المهم تطوير الأداء وتوظيف الخطاب الديني بشكل أكثر تنسيقا وتركيزا لمحاصرة هذه الآفة وغيرها من أشكال الانحراف، التي يمكن لخطاب ديني هادف أن يساعد في مواجهتها.

التصدي للتسرب المدرسي والأمية وعمالة الأطفال: تعتبر قضايا التعليم ومكافحة استغلال الأطفال وتسربهم من المدارس، هي موضع اهتمام ديني لدى كل الطوائف والأديان، ومن الأهمية بمكان الاستناد إلى الذخيرة الدينية وثقلها الاجتماعي لنشر الوعي حول هذه القضايا، فضلا عن الدور المباشر، الممكن للمؤسسات الدينية القيام به.

إن ما يدفعنا إلى التشديد على دور القيادات والمؤسسات الدينية في التنمية هو اعتراف مؤسسات التنمية الدولية، وخاصة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بهذا الدور، وهو الذي أسهم في التحركات العالمية لتحالف الأديان لحماية البيئة، وفي دعم وزارة الأوقاف السورية في إطلاق مشروع تعزيز دور علماء الدين في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في سورية، حيث شمل المشروع مجالي البيئة والسلامة العامة والتوعية المرورية والوقاية من حوادث الطرق..

لقد أعدت «هيئة السكينة الإسلامية» في لبنان دراسات ستكون قيد الطبع بإذن الله، خلال الأشهر القليلة الآتية، حول قضايا التنمية في الإسلام، ونأمل أن نتلاقى مع كل المخلصين في سبيل صياغة مبادرة تعاون صادق (إسلامية - مسيحية) تعزز العيش المشترك على المستويين اللبناني والعربي، وترفع المسلمين والعرب عاليا في سماء الحوار والتعاون الحضاري والإنساني.

*رئيس هيئة السكينة الإسلامية في لبنان