الجداليات المعاصرة مع الإسلام.. الاتجاهات والاستهدافات

رضوان السيد

TT

تفاجئ الجداليات الغربية المعاصرة ضد القرآن والإسلام في ضخامتها من جهة، وفي استعادتها لموضوعات الجدال القديم بحذافيرها. وعندما أقرر ذلك، فلست أقصد المسائل المتداولة في الإعلام، التي تتعلق بأمرين اثنين: العنف والإرهاب، والقلق الغربي (والأوروبي على الخصوص) من تكاثر المسلمين في الغرب. فأقاويل الإعلام بشتى أشكاله لهذه الناحية لها أهداف مباشرة تتصل بالأمور المتداولة على الساحة العالمية أو التي صارت كذلك بعد أحداث عام 2001 وما تلاها من اندلاع «الحرب العالمية على الإرهاب»، التي لا تزال وقائعها تتوالى، وتتخذ مسارب مختلفة. إنما الذي أقصده بالجداليات الأخرى، هي تلك المعروفة بالبحوث الأكاديمية، والتي تجري في الجامعات ومراكز الدراسات الإسلامية في الغرب. وكان من نتائج تلك الجداليات التي تتخذ السمات العلمية، مصير الأكاديميين الآسيويين (اليابانيين والهنود والصينيين)، أيضا إلى الخوض فيها على الأسس والمناهج التي اصطنعها ويصطنعها الأوروبيون والأميركيون. وقبل الخوض في التفاصيل؛ أود التفرقة هنا بين نوعين من البحوث: البحوث ذات السمات التقليدية، إذا صح التعبير، التي يمكن اعتبارها متابعة لدراسات المستشرقين منذ القرن التاسع عشر، في نشر النصوص القديمة، وفي وضع النصوص المسيحية واليهودية في الجدال مع الإسلام، في مواجهة النصوص الإسلامية القديمة من النوع نفسه، أي النوع المعروف باسم الرد على النصارى واليهود. وآخر ما اطلعت عليه من هذا النوع مثلا ما عمد إليه غابرييل رينولدز، وسمير خليل سمير من ترجمة لفصل القاضي عبد الجبار (415 هـ) في الرد على النصارى من كتابه: «تثبيت دلائل النبوة»، إلى الإنجليزية، والبحث في مصادره، وردود المسيحيين المعاصرين لعبد الجبار وأقرانه، عليه.

إن ما أقصده من الجداليات «الأكاديمية» النوع الآخر الغالب اليوم، وهو ما يتعلق بأصول القرآن والإسلام. فالتركيز في عشرات البحوث: «الأكاديمية» مرة أخرى ينصب في ثلاثة اتجاهات: الأول الملحاح: الإقبال على اكتشاف الأصول السريانية للقرآن. والثاني الملحاح أيضا: الإقبال على اكتشاف أصول القرآن والإسلام، فيما صار يعرف بالأزمنة الكلاسيكية المتأخرة (أي القرنين السابقين على الدعوة المحمدية). الثالث الأقل إلحاحا، ولكن الحاضر دائما: نسبة هذه الآية أو تلك أو هذه العقيدة أو تلك إلى اليهودية أو المسيحية. والاتجاه الثالث هذا كان سائدا في الدراسات الاستشراقية منذ مطلع القرن التاسع عشر، أما الاتجاهان الآخران فكانا حاضرين بهذه الدرجة أو تلك، لكنهما صارا سائدين في العقدين الأخيرين.

يذهب أتباع الاتجاه الأول (السرياني) إلى أن المطلوب اكتشاف الأصل السرياني للقرآن أو الصيغة القرآنية الأولى قبل الجمع العثماني لدى الذين يعترفون به، وهم قلة، أو قبل أن يصبح القرآن نصا (قانونيا) سائدا ومعترفا به. ولدى المتطرفين من أنصار هذا الاتجاه أو أتباعه؛ فإن هناك نصا قرآنيا أولا، أو نصوصا قرآنية أولى، هي عبارة عن ترجمة للإنجيل الأبيوني الذي كان مكتوبا بالسريانية. والأبيونيون (أي الفقراء) لدى مؤرخي الكنيسة الأولى، هم طائفة يهودية/مسيحية لجأت للجزيرة العربية في القرنين الثاني والثالث للميلاد، وكان لها إنجيلها الخاص الشديد التأثر ببعض أسفار العهد القديم أو التوراة. ويمضي بعض هؤلاء إلى الحدود الأسطورية، فيذهبون إلى أن ورقة بن نوفل كان «مطران» أو أسقف تلك الطائفة بمكة، وما حولها، ومنه تعلم النبي (عليه الصلاة والسلام) السريانية، وصاغ نصوص ذاك الإنجيل بالعربية. وقد دخلت ذاك الإنجيل في العهد المدني وبعد وفاة النبي تغييرات وتعديلات كثيرة، إما لظهور احتياجات جديدة، أو لأن المسلمين الأوائل لم يكونوا يعرفون السريانية المعربة تلك، فتأولوا من أجل الفهم والإفهام والتمايز عن النصرانية المعاصرة لهم. والمطلوب لدى أصحاب هذا الاتجاه إزالة الطبقات المتراكمة على النص الأصلي، لإظهار الدثائر والحفائر الأولى، وهي سريانية خالصة! وفي هذا الاتجاه، كتبت بالفعل عشرات، بل مئات المقالات والكتب في القرن العشرين، أكثرها في العقود الثلاثة الأخيرة، واستخدمت فيها شتى الوسائل والأدوات - ومع أنها ما أسفرت عن شيء، كما كان منتظرا؛ فإن شبان المستشرقين الجدد ما كلوا ولا ملوا، ولا يزالون على هذه الوتيرة، وآخر صيغها المتواضعة ظاهرا: محاولة الوصول إلى «تحقيق» للنص القرآني العثماني، تظهر في حواشيه فروقات المخطوطات المبكرة والقراءات السبع أو العشر ومرويات الناسخ والمنسوخ. وفي ظن هؤلاء، بل يقينهم أن ذلك سيشكل مرحلة أولى في الكشف عن النص الأصلي السرياني أو الأبيوني! ولأن هذا الاتجاه ما أنتج حتى الآن النتائج المرجوة، رغم كثرة الادعاءات بشأن أصول المفرد القرآني أو ذاك؛ فإن الاتجاه المدعي لنفسه طابعا «علميا» أدق، تخلى أصحابه عن اعتبار القرآن نسخة مترجمة عن لغة أخرى؛ وذهبوا على وجه الإجمال لاعتباره نتاجا للكلاسيكيات المتأخرة (بين القرنين الخامس والسابع للميلاد). وهكذا فقد أضافوا إلى التدقيقات اللغوية واللسانية، عرض الأفكار والديانات والشيع التي كانت موجودة في العالم الهيلينستي، وانصرفوا إلى اكتشاف مثائلها أو تأثيراتها في النص القرآني. وبحسب هؤلاء؛ فإن القرآن يشكل سجلا غنيا ومدونا للتوجهات الفكرية والدينية - عقائد وأمثال ومفردات – والتي كانت سائدة في تلك العوالم الكلاسيكية بفرقها ومشائجها.

على أن هذين الاتجاهين الطموحين والمتجددين، ما استطاعا إلغاء الاتجاه الثالث الأقدم، الذي يملك خلفيات صراعية وتبشيرية يهودية ومسيحية. وقد كان المبشرون المسيحيون قديما أعنف من الآخرين في التعامل مع القرآن والإسلام، بسبب التاريخ المضطرب للعلاقات بين الدينين. إنما بعد قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وتطور الصراع على القدس وفلسطين إلى صراع ذي وجه ديني؛ فإن المستشرقين اليهود ما عادوا أقل عنفا وإصرارا وجداليات، ولذلك فبعد أن كنا نقرأ عناوين، مثل الأصول اليهودية أو المسيحية للقرآن، صرنا نقرأ في العقدين الأخيرين عناوين مثل سفر أيوب أو سفر أرميا أو إنجيل متى في القرآن. بل إن في سوق النشر الأكاديمي اليوم - ودائما الأكاديمي! – دراسات عن صياغة المسلمين للسيرة النبوية بما يوافق سيرة موسى التوراتية، إثباتا لنبوة النبي من طريق التماثل. وإذا كانت الصياغة القرآنية أو الإسلامية لليهودية أو المسيحية، قد قام بها النبي وأصحابه وأهل القرنين الأولين للإسلام؛ فإن ابن إسحاق وأقرانه مسؤولون عن دراسة العهد القديم والدثائر اليهودية، وإعادة تركيبها على شخصية النبي محمد (عليه الصلاة والسلام)! تتجاهل كل البحوث والدراسات مؤخرا فهم القرآن والنبي للعلاقة بالديانتين السابقتين، بل والديانات الأخرى المذكورة في النصوص وكتب التاريخ العربية الأولى. فالقرآن يعتبر الدين واحدا، ومن الطبيعي أن يكون هناك تشارك في العقائد الرئيسية المتصلة بالتوحيد والنبوات والكتب واليوم الآخر وبدء الخلق، ومسائل الخير والشر أو المنظومة الأخلاقية. وهكذا، فإنها تعتبر كل تشابه دليلا على الاقتباس أو السطو! والطريف أن مبشري القرن التاسع عشر ومطالع العشرين، كانوا يركزون على الاختلافات في بعض الجزئيات بين القرآن والعهدين، للذهاب إلى أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ما كان يعرف العقائد اليهودية والنصرانية جيدا. في العقدين الأخيرين يحصل العكس، أي يصبح التشابه دليلا على الاستعارة التي تصل إلى حدود الترجمة! إنما الأسوأ من ذلك ما تعلمناه منهم عن أصول دراسة النص ونقده. إذ إنهم أول من يتناسى ويتجاهل ذلك، فلا يعتبر علميا أن النص قائم وله عوالمه التعبيرية ونظام خطابه، فيعمد إلى شرذمته من الناحية الفكرية أو التركيبية قبل أن يقرأه كما هو، ولو من أجل إعادته إلى عناصره الأولية. ثم إنه إذا كان القرآن مجموعة مختارة من أفكار الكلاسيكيات المتأخرة، فكيف اشتغلت تلك النصوص المتنافرة فيما بينها، وشكلت نظاما للخطاب، ونصا شعائريا حيا ومتسقا، ودينا يدين به مئات الملايين، بل آلاف الملايين عبر العصور؟! ولست مقتنعا بالعذرين اللذين يوردهما الذين نحاورهم، فهم يقولون تارة إنهم يتعاملون مع النص القرآني، كما تعاملوا مع النصوص الدينية الأخرى. ويقولون تارة أخرى إنهم يقرأون القرآن قراءة تاريخية أو أدبية. إذ إنني لا أرى أن التعامل واحد، كما أنني لا أرى أن الدراسات المذكورة تاريخية أو أدبية. ولست من أتباع نظرية المؤامرة، ولا من الذين يحرمون على غير المسلمين محاولة قراءة القرآن. لكنني لا أستطيع فهم هذه «الدراسات» المتكاثرة والسلبية عن القرآن والإسلام، إلا في سياق المحيط الإعلامي العالمي الحاضر والهائج، والإسلاموفوبيا المتصاعدة، التي تفقدنا الثقة بالمناهج المدعاة وغير المطبقة بالقول وبالفعل.