نصر أبو زيد.. رحيل مباغت ومشروع لم يكتمل

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

كانت المرة الأولى، والأخيرة، التي التقيته فيها وجها لوجه، حين كنت مارا مسرعا في البهو الرئيسي لمكتبة الإسكندرية، حينها لمحني صديقنا المشترك الدكتور علي مبروك، فسارع بتقديم الراحل إلي. وبطبيعة الحال؛ كنت أعرف الدكتور أبو زيد جيدا لكن ما لم أعرفه في تلك اللحظة بالذات، هو لماذا بادرت بوضع يدي على كتفه اليسرى، وربت عليها، فيما سلم علي بحرارة بالغة لا أعرف ما إذا كان - رحمه الله - يفعل ذلك مع الجميع؛ أم أنها لحظة كشف وتواصل عابرة! على أي حال؛ سرعان ما انتهى اللقاء ومضى كل منا في حال سبيله نحن الذين شغلنا بهموم الفكر عن كل شيء، حتى عن أبرز غاياته وأسمى دواعيه.. التواصل الإنساني! وكما يقول متصوفة الإسلام؛ فإن الأنبياء سلطت عليهم الأحوال فملكوها، أما نحن فقد سلطت علينا الأحوال فملكتنا لشدة قوتهم وضعف حالنا! ومع ذلك؛ فإنني ولجت إلى عوالم الراحل الكريم من البوابة الخطأ مرتين! في المرة الأولى خضعت لتأثير الجو المشحون بدفعات كهربائية عدائية والموجة العامة ضده، شأن كثيرين مثلي ممن كانوا في قلب المؤسسة الأزهرية، فرأيت في اجتهاده قلبا للأسس والقواعد الدينية، وقفزا على ثوابت الوحي الإلهي، وما هو معلوم من الدين بالضرورة! وكنا في جامعة الأزهر نسمع كلاما «له العجب»، كما يقول المصريون، حول علمنة فلان وزندقة علان وكون نصر وغيره من المثقفين والأدباء، مجرد أداة في يد قوى استعمارية تبشيرية حاقدة على الإسلام والمسلمين في آن معا! ورغم ذلك ظل السؤال في رأسي قائما: إذا حق لقوى الغرب أن تحقد على الإسلام لجهة كونه خلف إمبراطورية قوية، فما الذي يدفعه للخوف من المسلمين على ما هم عليه من ضعف وهوان؟! لكنني ما إن تحررت من ربقة هذا الفضاء القاتم المتشكك دائما وأبدا، المبادر إلى اتهام الآخرين من دون معرفة في أغلب الأحوال، حتى وقعت في أسر الاتجاه المضاد له تماما، أعني جهة المتاجرين بقضية الرجل الواجدين فيها فرصة للهجوم على الإسلام بدلا من أن يوجهوا سهام نقدهم نحو الأصولية الإسلاموية. ونتيجة لذلك؛ ابتعدت عن الرجل وكتاباته بكل ما تحمله من معان، وبكل ما تظهر قراءاتها المتعددة من أدلجة واستقطاب حاد في الفضاءات الثقافية العربية المرئية منها وغير المرئية! ثم ما لبثت أن عاودت قراءة القراءة الزيدية لمسائل القرآن والتراث وعلائق النص والسلطة والمجتمع مرة أخرى، فإذا بي أزداد حيرة على حيرتي وقلقا على قلقي! فرغم ما كان يتمتع به من قدرة على الإقناع وتنظيم الأفكار بحكم تملكه للأدوات البحثية في المنهج والمعرفة التراثية، فإن آفة «الانتقائية» ظلت مسيطرة على طروحاته وأطروحاته الرئيسية (قراءة النص القرآني باعتباره نصا أدبيا، بحسب نظرية النص والمفاهيم العربية القديمة والحديثة للدراسات الأسلوبية).

صحيح أن مشروعه لم يكن بدعا في هذا الأمر؛ وإنما تابع فيه نهج المعتزلة الكلامي، كما تأثر فيه بكتابات الشيخ أمين الخولي بصفة خاصة، وسبقه إلى هذا النهج كل من بنت الشاطئ ومحمد أحمد خلف الله؛ إلا أنه امتاز عن هؤلاء جميعا - فيما يؤكد رضوان السيد - بعدم الخضوع للآراء المسبقة، ولا قسر النص على قول ما لا يمكن قوله، ولا خضع للتاريخانيات المشرذمة للنص أو الدائبة في تصغير رؤيته وشعائريته وانتظامه، على الرغم من عيشه بالغرب، وتعرضه لشواظ العداء للإسلام أو الاستخفاف بمقدساته.

وإذا كان «أول التجديد قتل القديم بحثا»، كما قال شيخه الخولي؛ فإن عملية القتل هذه - أو الهدم بهدف البناء بحسب تعبير عبد الرحمن بدوي - لا ينبغي أن تكون عبثا لا طائل من ورائه، ولا حقا متاحا لكل من قرأ كتابين! خاصة أننا نعاني اليوم من فوضى الفتاوى المنتشرة من دون ضوابط في عوالم الفضاءات التلفزيونية والإلكترونية. ولذلك وضع العلماء شروطا يجب توافرها فيمن يتصدى للإفتاء أو للاجتهاد.

وبالرجوع إلى مشروع الراحل نلاحظ، إلى جانب غلبة النهج الانتقائي على أطروحاته، أن ثمة مجموعة من الأحكام العامة الخاطئة سيطرت بدورها على توجهاته، في مقدمتها: ربطه حصول أي تجديد في الفكر الديني المعاصر بمناقشة إشكالية «الكلام الإلهي» وعلاقته بالذات الإلهية! وهو بذلك يكون قد حدد سلفا، نتائج هذا النقاش، أعني أن ينتج عنه نسف الأسس اللاهوتية الأشعرية التي استقرت في الفكر الإسلامي منذ القرن الثالث الهجري. فقد أشار في أبحاثه إلى أن محاولات التجديد الحديثة والمعاصرة لا تعدو أن تكون مجرد قراءات تأويلية للقرآن على مرجعية الحداثة، وأنها سرعان ما تبوء بالفشل الذريع، حيث يسهل للمسلم «استعادة إسلامه من فك الحداثة»؛ وكأنما يشير بذلك إلى أن التجديد لا يستقيم ويرسخ إلا إذا احتمل التأويل معنى دلاليا واحدا، وأن ذلك غير ممكن إلا بالخروج عن التعريف السائد للقرآن الكريم من أنه كلام الله الأزلي القديم! ونتيجة لذلك؛ قام أبو زيد بنقد بعض المقاربات التجديدية الحديثة التي حاولت كسر جدار الصمت المشروع حول الموضوع «دون أن تقارب تخوم السؤال»، منتهيا إلى تفضيل مقاربتي: «حسن حنفي» و«فضل الرحمن» بحجة أنهما يعطيان للنبي (عليه الصلاة والسلام) دورا إيجابيا في عملية الوحي، متأسفا لعدم مضيهما بأفكارهما لنهايتها المنطقية، وإلا لوصلا للنتيجة نفسها التي توصل إليها، ومفادها أن الوحي لم يكن اتصالا لغويا بين جبريل والنبي، وإنما كان إلهاما، صاغه النبي في قوالب اللغة العربية، وعليه، فالقرآن منتج ثقافي لتلك البيئة العربية، وإن أنتج بدوره ثقافة جديدة! يتابع أبو زيد أطروحته تلك، وصولا إلى القول بأننا إذا فهمنا القرآن على هذا النحو، فسوف يتسنى لنا فهمه باستخدام علوم اللغة العربية، ومن ثم ستتحدد الدلالات والمعاني، وتنتهي بذلك فوضى التأويل الذي يحتمل كل أنماط المعاني والدلالات المتناقضة، وسيمكننا حينئذ فرز ما هو جوهري، وما هو تاريخي، فنتجاوز الثاني ونبقي على الأول! على أن الربط بين فهم طبيعة القرآن من جهة، وتعددية الدلالات الناتجة عن ذلك التأويل من جهة أخرى، وصولا إلى نسف تعددية التأويل يدخل في إطار المستحيلات! فتعددية التأويل ستظل قائمة بحكم طبيعة النص القرآني ذاته بما أنه «حمال أوجه»، فضلا عن أن التعددية التأويلية - رغم ما يتخللها أحيانا من تجاوزات شتى - فإنها تبقى علامة صحية ومصدر ثراء لفهم القرآن الكريم.

أضف إلى ذلك أيضا، أن حمل اللفظ القرآني على معنى أو تأويل واحد - مهما بدا عقلانيا بنظر البعض - يظل معبرا عن احتكار صارم للحقيقة القرآنية! ويكفي للتدليل على ذلك ما قام به المعتزلة أيام الخليفة المأمون من فرض آرائهم الكلامية واضطهاد المخالفين لهم بحكم القرب السلطاني. وبالتالي فإن تعددية التأويل ستظل قائمة، حتى لو انتصرت آراء المعتزلة وآمن المسلمون جميعا بأن كلام الله (القرآن) مخلوق، أو أنه وحي إلهي مصاغ بواسطة النبي! ناهيك عن أنه نحا في مشروعه لتصوير مسألة تعدد المعاني والدلالات، على أنها شر مستطير يجب التخلص منه، في الوقت الذي أكد فيه أن القرآن - وفق العملية التي تم إبلاغه بها - يحتمل كل أنماط المعاني ومختلف الدلالات اللغوية! أخيرا: ما الذي سيترتب على ذلك القول عمليا، أعني إذا اعتبرنا أن القرآن ليس أزليا، وإنما هو مخلوق، خاصة في سياق الإصلاح والتجديد؟ ولماذا لم يأخذ بعين الاعتبار لجوء الفقهاء الأوائل إلى آلية النسخ للقضاء على هذا التناقض، وذلك بإحكام النصوص التي تحتوي على الخطاب الأول (الخطاب القائم على المسؤولية والرشد)، وإبطال أحكام النصوص التي تحتوي على الخطاب الثاني (الخطاب القائم على الوصاية والقصور)؟! أغلب الظن أن الراحل الكريم كان بصدد مراجعة أطروحاته، خاصة بعدما تراجع عن النظر إلى القرآن باعتباره نصا (وهو الذي اشتغل بتلك المسألة لما يربو عن عقد ونصف العقد من الزمان) وأخذ ينظر إليه باعتباره خطابا. فضلا عن بعض الإشارات التي عبر بها عن حنينه للعودة إلى المدرسة القديمة وتململه من تنامي موجات الإسلاموفوبيا ضد المسلمين في الغرب، ونيته العودة من الغرب والانتقال للعمل بالجامعة الإسلامية بماليزيا.

* كاتب مصري