معنى تجدد الصراع على الإسلام

رضوان السيد

TT

صرح مسؤول تربوي سعودي قبل أيام أن الجهات التربوية والتعليمية السعودية أنجزت تعديلات على البرامج في مدارس المملكة، والمدارس التابعة لها بالخارج. وفي التعليق على ذلك، ذكر بعض الحزبيين أن الغربيين (والمقصود الأميركيون على الخصوص)، لا يزالون يضغطون من أجل تغيير المناهج والبرامج، بدعوى مكافحة التطرف، ونصرة الاعتدال، ومنع تخريج أجيال جديدة من المتشددين بين الشباب. وكانت أحداث خريف عام 2001، التي أطلقت الحرب العالمية على «الإرهاب الإسلامي»، قد صاحبتها تحليلات وخطط أميركية (ما لبثت أن امتدت إلى أوروبا) في كيفيات تجنب أحداث مماثلة، وإسقاط الجاذبية التي تتمتع بها «القاعدة» والمتطرفون في أوساط الشبان المتدينين. وما اقتصر الأمر في إسقاط الجاذبية، وتجفيف مصادر دعم الإرهاب، على وضع الخطط التربوية، وملاحقة المؤسسات الخيرية، بل تكونت تدريجيا – على أساس التحليل والتشخيص - مؤسسات حكومية وأخرى «مدنية» مدعومة، للقيام بـ«حرب أفكار» بالتوازي مع العمليات العسكرية والأمنية، لتحقيق الأهداف ذاتها في المدى الاستراتيجي. وحرب الأفكار هذه - التي أعلن عنها يومها رامسفيلد وزير الدفاع السابق - ذات ثلاث أذرع: ذراع العلاقات العامة والسياسات العامة، التي يوجهها موظفون من درجة عالية في وزارة الخارجية، وهدفها تحسين صورة الولايات المتحدة لدى المسلمين بشتى الوسائل السلمية والدبلوماسية، ومن ضمنها عمل وكالة التنمية الأميركية في بلدان العالم الإسلامي. والذراع المدنية - الحكومية، التي تعتمد في التقرب من المسلمين على تقديم المنح للطلاب، ودعم مؤسسات وجهات التنوير والحداثة والديمقراطية في البلدان العربية والإسلامية، مثل المتاحف ولجان حقوق الإنسان، ولجان وشخصيات الترجمة عن الحضارة الغربية، والمجلات الثقافية والفنية، والنوادي الثقافية... إلخ. والذراع الثالثة تعتمد سياسة تمويل دراسات في الغرب وفي العالم الإسلامي عن التوجهات العامة في الثقافة والدين في العالمين العربي والإسلامي، والأوضاع الحالية في هذين المجالين، والتوقعات المستقبلية، وتقديم مساعدات وهبات للجهات الأكاديمية في الجامعات لتطوير الدراسات عن العرب والمسلمين والمعاصرين، وعن التوجهات المتشددة والأخرى المعتدلة في سائر الجهات.

وليس المقصود من هذه المقالة تتبع تلك النشاطات بالتفصيل، وإنما إبراز استراتيجيات الصراع للقبض على «روح الإسلام» إذا صح التعبير. وهو تعبير استعملته عدة جهات شاركت ولا تزال في حرب الأفكار تلك. ونعلم أن الجهات الأميركية والأوروبية الدارسة والمتابعة اعتبرت أن الصراع للقبض على «روح الإسلام» تدور على أربعة محاور: محور المتشددين والجهاديين، ومحور الاستراتيجيات العالمية (الولايات المتحدة وحلفاؤها، وبينهم الروس والصينيون والهنود)، ومحور الأنظمة العربية والإسلامية، والمحور الإسلامي الداخلي الذي يتناول الصوفية والسلفية غير الجهادية، والإخوان المسلمين. وقد رأى المفكرون الاستراتيجيون (مؤسسة «RAND» مثلا)، أن الأكثر جاذبية خارج «القاعدة» هم الإخوان المسلمون وما تفرع عنهم في البلاد العربية خارج مصر. وقد أجروا اتصالات بهم، وحضروا معهم مؤتمرات ومشاورات، وجهدوا لكي يتخلى هؤلاء علنا عن رؤية «الحاكمية»، وأن يصبحوا أكثر «ديمقراطية» وهدوءا واستعدادا لقبول الآخر السياسي والآخر غير المسلم. وما أخطأوا بعد عام 2005/2006 في مراعاة الأنظمة السائدة، لكنهم وطوال خمس سنوات قبل ذلك ضغطوا عليهم دون استثناء ضغطا شديدا، وباتجاهين: بالنسبة لأنظمة الخليج باتجاه رفض التشدد ونتائجه وتداعياته، وبالنسبة للدول العربية الأخرى باتجاه فتح الأبواب للمشاركة الشعبية والوطنية، واصطناع انفتاحات ديمقراطية. بيد أن مقولتهم الرئيسية التي حكمت تصرفاتهم في النهاية هي أن هناك إسلامين، أحدهما متشدد والآخر معتدل. ولأنهم معنيون بالسياسة والحكم وليس بالدين في حد ذاته، فإن المسلم المعتدل بالنسبة لهم صار هو غير القائل بأمرين: جهاد غير المسلمين، والدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة. وهاتان المقولتان غائبتان لدى الصوفية حتى لدى الإحيائيين الناهضين منهم، ولذلك فقد كانت هناك نصائح وتوجهات للعناية بالمتصوفة. وهذا التنبه صار مشتركا، عندما اكتشفوا أن فتح الله غولن، رجل الأعمال التركي والصوفي النقشبندي، وصاحب المؤسسات الاقتصادية والتعليمية بتركيا وغيرها، مقيم بالولايات المتحدة منذ أكثر من عقد، وكان من أنصار أربكان، وهو الآن من أنصار حكومة حزب العدالة والتنمية. لقد اكتشفوا إذن موديلا متجسدا للإسلام «المعتدل»، ودعموه ويدعمونه، وإن تكن توجهات أردوغان الشعبوية منذ حرب غزة وقد أثارت لديهم الكثير من الامتعاض! في سياسات «الصراع على الإسلام» صار للأميركيين والأوروبيين وروسيا والآسيويين الكبار إذن توجهات ونفوذ. وهم - شأنهم في ذلك شأن العرب والمسلمين - ليسوا متفقين على توجه واحد. فالروس والصينيون يجادلون الأميركيين والأوروبيين في «مسالمة الصوفية»، ويذهبون إلى أن الإسلاميين الجهاديين في الشيشان وشينجيانغ هم أتباع طرق صوفية. وهكذا فهناك صوفيون جهاديون أيضا، والأميركيون أنفسهم عرفوا نقشبندية مجاهدة في العراق. وعلى كل حال، فإن للغربيين والروس والآسيويين مبرراتهم في التدخل في الشؤون الإسلامية، وتتمثل في أمرين: أن المتطرفين المسلمين بادروا لمهاجمتهم تحت اسم «القاعدة»، والسلفية الجهادية... إلخ. وأن عندهم عشرات الملايين من الرعايا والمواطنين الذين بدأ الجهاديون وبدأت تيارات الخصوصية تؤثر فيهم. ولذلك فإنهم يتعاونون مع السلطات العربية والإسلامية في ما يتعلق بالإجراءات الأمنية، ويتشاورون معها في ما يمكن القيام به لتجفيف منابع الإرهاب من النواحي التربوية والمادية. ثم إنهم يحاولون إقامة تواصل - لا يحظى دائما باستحسان السلطات العربية - مع حركات الإسلام السياسي، بغرض منعها من الانزلاق نحو التطرف، وبغرض إحداث اعتراف متبادل بينها وبين السلطات إن أمكن.

وفي وعي الغربيين، أن الإسلام الشيعي لا يشكل خطرا عليهم، وإنما سياسات الدولة الإيرانية. فالشيعة أقليات منتشرة في العالمين العربي والإسلامي، وقد كانت لهم مجادلات سلبية بالسلفية على مدى القرن العشرين، كما ببعض الأنظمة العربية. وقد تعاونوا مع الأميركيين من أجل إسقاط الحكم الصدامي بالعراق، ولا يملكون وعيا عقائديا في مصارعة الغرب. والذين استقروا في الغرب منهم معادون في الغالب للنظام الإسلامي الذي في بلادهم. وخطر سياسات النظام الإيراني يبدو لدى الغربيين في ثلاثة أمور: إقباله على التسلح بالأسلحة الاستراتيجية، واستقطابه للجماعات الشيعية في ديار العرب والمسلمين، ودعمه لحركات الإسلام السياسي. بيد أن الخبراء الغربيين لا يعتبرون التحركات الشيعية في العالم العربي جزءا من حركات الإسلام السياسي السنية، لأنها لا تملك مشروعا لدولة دينية في البحرين مثلا أو لبنان، بل المشكلة معها أنها تأتمر بأمر إيران بأشكال مختلفة. فالتسوية مع الدولة الإيرانية تشكل تسوية معها، وستعود إلى المماحكات والصراعات مع الأكثرية حينذاك.

لقد تراجعت توجهات المواجهة العقائدية الأميركية ضد الإسلام الأصولي في الأعوام الأخيرة، لأنها شملت في الحقيقة الإسلام نفسه، ولأنها لم تأتِ بنتيجة، بل ازدادت وجهات نظر العرب والمسلمين سلبية بعد عام 2001. وقد اعترفت إدارة الرئيس أوباما بخطأ السياسات الثقافية وسياسات العلاقات العامة السابقة، وأسقطت حتى تعبير الحرب على الإرهاب الإسلامي. وجاءت خطابات أوباما بالقاهرة واسطنبول وأماكن أخرى، لتشعر بسياسات جديدة تجاه المسلمين والإسلام. بيد أن تعثر المفاوضات في فلسطين، وارتفاع درجة العنف في أفغانستان وباكستان، حالا دون حصول تقدم ملموس في مسائل التوجه والرؤية لدى جمهور المسلمين، وجمهور الحركات الإسلامية، تجاه الولايات المتحدة. ثم إن سياسات كراهية المسلمين والإسلام لا تزال تلقى استحسانا كبيرا في أوروبا. ولذا فإن التأزم مستمر، وعوامل الصراع لا تزال موجودة وفاعلة. ولا بد من مساع أكبر وأكثر جدية من جانب الحكومات والمثقفين من الطرفين العربي والغربي، لمواجهة هذا التأزم، وتجاوز اللحظات الحرجة فيه.

وما عالجت في هذه المقالة المسألة التربوية وحساسيتها في علاقاتنا بالعالم، وربما تأتي لذلك مناسبة أخرى. إنما الذي لا شك فيه أن برامجنا التربوية والتعليمية تحتاج إلى تطوير دائم، بما في ذلك برامج التعليم الإسلامي. لكن ما لا شك فيه أيضا أنه لا علاقة لتلك البرامج بصنع إسلام متشدد أو عداء مع العالم.

فيبقى أن «الصراع على الإسلام» - وهو عنوان كتابي الصادر عام 2005 - مستمر بأشكال متعددة، بعضها جديد. وهو ليس قاصرا على العلاقة مع الغرب، بل يتناول مسائل كبرى في عالم الإسلام نفسه.