برنارد لويس.. صحوة الساعة الحادية عشرة

إميل أمين

TT

من بين أهم التعريفات التي يستخدمها رجال السياسة والاجتماع أيضا في الغرب تعبير الساعة الحادية عشرة وهو مصطلح له أصول كتابية إنجيلية ترمز إلى محاولة إدراك منجزات بعينها قبل انقضاء الوقت المقدر بقليل واستباقا للفرصة المتاحة من الضياع مرة وإلى الأبد.

ربما تنطبق هذه المقولة على بعض من الآراء التي أوردها بطريرك الاستشراق برنارد لويس في كتابه الأخير «الإيمان والقوة» FAITH AND POWER الصادر مؤخرا عن جامعة أكسفورد.

باختصار غير مخل يمكن تعريف برنارد لويس على أنه واحد من مقدمة أولئك المفكرين والباحثين الاستراتيجيين النازعين إلى تكريس النظرة الأحادية للعالم عبر البوابة الإمبراطورية الأميركية التي رأت في نفسها الوريث الشرعي والوحيد لكافة الإمبراطوريات سالفة الذكر وكان للرجل دور بارز في دعم جماعة المحافظين الجدد بالمدد الفكري والزخم العقلي للمضي في طريقهم الذي كلف العالم وما يزال سنوات من الدم والنار والثأر والمواجهة.

وكثيرا ما انطلقت ألسنة العرب والمسلمين بتساؤل مثير: لماذا يكرهنا هذا الرجل؟ لا سيما أن مقالته الشهيرة في أوائل التسعينات «جذور الغضب الإسلامي»، كانت الركيزة الأساسية التي بنى عليها المفكر والبروفسور صموئيل هنتنغتون أطروحته الشهيرة «صدام الحضارات» التي قسم فيها العالم إلى معسكرين متقابلين ومتصادمين، معسكر غربي مسيحي يهودي في مواجهة معسكر شرقي إسلامي كونفوشيوسي.

وعند الكاتب الفرنسي الجنسية المصري الأصل «آلان جريش» أن برنارد لويس أشبه ما يكون بـ«إله» الرومان جانوس لأنه مثله، له وجهان، الأول كباحث جامعي والثاني كسياسي واستخباراتي قديم، ولويس الجامعي البريطاني الذي استقر في الولايات المتحدة منذ عام 1974 معروف بتخصصه وأبحاثه حول الشرق الإسلامي ونشر العديد من الكتب حول العالم الإسلامي.

ومن جهة أخرى هو المثقف المنخرط منذ زمن طويل في الصراع السياسي، حيث تميز بدعمه الأعمى للسياسة الإسرائيلية وإيجاده لآلاف الاعتذارات للجنرالات الأتراك إبان استبدادهم بالسلطة في أنقرة وبإنكاره مذبحة الأرمن الذي أدين بسببه في فرنسا.

والشاهد أن أحدا لا يستطيع أن يتجاهل الدور الخطير الذي لعبه لويس إبان استعلاء المحافظين الجدد في سماوات الولايات المتحدة، ذلك أنه منذ وصول جورج بوش الابن إلى رئاسة الولايات المتحدة أصبح برنارد لويس مستشارا مسموع الرأي مقربا من المحافظين الجدد وخاصة بول وولفويتز الذي كان مساعدا أول لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذي أشاد بلويس خلال حفل أقيم على شرفه في تل أبيب سنة 2002 بقوله: «لقد علمنا برنارد لويس كيف نفهم التاريخ المعقد والمهم للشرق الأوسط وكيف نستعمله ليوجهنا إلى المرحلة القادمة من أجل بناء عالم أفضل للأجيال القادمة».

أما عن الدور الذي شارك به لويس فكريا ودفع الأمور للتصاعد دفعا في غزو العراق فحدث عنه ولا حرج ذلك أن اجتماعا جرى في منزل نائب بوش ديك تشيني بعد أسابيع قليلة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) كان فيه لويس العقل المفكر.

ففي تلك الأمسية طلب تشيني من لويس أن يوضح لهم أهم خطوط الطول والعرض والعمق والارتفاع عن ثلاث قضايا: القران، والإسلام، ونظرة المسلمين لأميركا.

كان تشيني يعد العدة لغزو العراق وكان يدرك أن العالم الإسلامي لن يقف صامتا إزاء ما يجري هناك وعليه كان لا بد من فهم ردود الفعل المتوقعة وأعلى سقف يمكن أن يصل إليه الغضب الإسلامي الشعبي، ولويس يتمتع بخبرة مزدوجة، فهو من ناحية باحث متمكن في شؤون الإسلام وعلى صعيد آخر فهو رجل استخبارات بريطانية وثيقة ولصيقة الصلة بعالم الاستعمار في الدول العربية والإسلامية.. ما الذي قدمه لويس في تلك الأمسية؟

ذهب لويس إلى القول: بأن مشكلة المسلمين مع أميركا هي أنهم ينتمون إلى حضارة عريقة فهم يلتفتون إلى الماضي فيرون أنهم كانوا دائما في المقدمة أو على الأقل أندادا. لكن ميزان القوة قد تغير لصالح الغرب وهم لا يريدون أن يخضعوا لنا نظرا لتلك العوامل التاريخية.

وجاءت توصية لويس في تلك الليلة لتحمل على أن الخطوة المثلى لتغيير نظرة المسلمين للغرب ولأنفسهم هي: «غزو العراق». دخول بغداد واحتلالها هو الذي سيهزم المسلمين نفسيا ويقنعهم أن الدنيا قد تغيرت فما دامت بغداد هي مهد قوتهم ورمز جبروتهم التاريخي لأنها كانت مركز الخلافة فإن إخضاعها واحتلالها سيؤدي إلى استسلامهم وهزيمتهم نفسيا. هل أثبتت نظرية لويس صدقيتها؟

الجواب هو أنه بعد نحو سبعة أعوام من الاحتلال ظهر جليا أنها نظرية فاشلة، إذ تكسرت معطياتها وآلياتها على صخرة مقاومة الشعب العراقي ودعم بقية الشعوب العربية والإسلامية له، ذلك أنها شعوب تواقة بالفطرة للاستقلال وقد رفضت قبل خمسة عقود حياة الذل والضعة في زمن الإمبراطورية البريطانية وبنفس القدر ترفض اليوم الهيمنة الأميركية المباشرة وتلك غير المباشرة التي تمثلت في الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، وما جرى من احتجاجات في كافة البقاع والأصقاع الشرقية والغربية من مسلمين وعرب غير مسلمين وجنسيات غير عربية أصلا رفضا للهجوم الوحشي الأخير على غزة يدلل على أن انكسار بغداد وانتشار الجنود الأميركيين «بين الرصافة والجسر» على حد تعبير الشاعر العربي علي بن الجهم هو أضغاث أحلام تشكلت في مخيلة برنارد لويس ولا علاقة لها بالعالم الإسلامي.

كما أن أكثر نقاط النقد لأفكار برنارد لويس إثارة للجدل هي تلك التي تتصل بأسلوب التنميط والتعميم الذي مارسه لويس وما يزال في حق العرب والمسلمين فهو ينتقي مواده بشكل يصعب على النقاد محاججته أو التشكيك بصحتها وهو يستشهد إضافة إلى ذلك بآيات من القرآن الكريم وأحاديث الرسول بوقائع تاريخية قديمة وحديثة تنتمي إلى حقبة معينة وتتصل بفئة أو مجموعة أو مجتمع إسلامي ما، ثم يقوم بتحليلها وإسقاط نتائج ذلك ومدلولاته بشكل تعميمي سافر على العرب والمسلمين جميعا وعلى امتداد تاريخهم أو على حقبة كاملة منه.

والمقطوع به أنه يطول الحديث عن آراء وأفكار لويس، والكثير منها إن لم يكن معظمها بالفعل يبدو من حيث الظاهر براقا لكن من حيث الباطن تجده واهيا، وبخاصة أنه يعيش حالة إنكار مع النفس، إذ لا يستطيع أن يرى أي شيء إيجابي في الحضارة الإسلامية، ولا يرى إلا الوجه السلبي.. لكن ماذا عن صيحته الأخيرة وهو يقترب من الرابعة والتسعين من عمره بما يتجاوز في واقع الأمر الساعة الحادية عشرة؟

في كتابه الأخير «الإيمان والقوة» المشار إليه يرفض لويس الربط بين الإسلام والعمليات الانتحارية الإرهابية بتأكيده تحريم الإسلام للانتحار، ويركز لويس على أن الانتحار محرم في الديانة الإسلامية بشكل صريح، لكن من يقوم بمثل تلك العمليات فلا يبدو أنه يفسر دينه على نحو صحيح، فالدين الإسلامي يسمح بوجود الآخر ويحترم اختلاف الرأي. سلام للانتحار.

والأمر الآخر الذي يلفت إليه هو طبيعة قوانين الحرب، أو الجهاد المقدس في الإسلام، إذ يقول إن الشريعة الإسلامية تضع مبادئ وقواعد بشأن معاملة المدنيين ينبغي الالتزام بها في الحروب، إذ تحرم تعذيب الأسرى وتفرض على المحاربين عدم الإساءة للنساء والشيوخ والأطفال.

ومن الماضي البعيد يستحضر لويس مشهدا تقدميا للإسلام فيشير إلى أن الشريعة الإسلامية تحرم الحرب الكيميائية، لاسيما أن هذا النوع من الحروب كان معروفا منذ القدم، وكان عن طريق تسميم مصادر المياه وتسميم الأسهم والسيوف، إلا أن الإسلام يرفض ذلك.

إلا أن الطبع يغلب التطبع، والوجه الآخر للويس لا يقدر له أن يختفي، إذ يثير الرجل ومن جديد المزيد من اللغط حول موجات الهجرة الإسلامية لدول الغرب حيث اعتبرها الوسيلة الحديثة لنشر الإسلام.

كان مقال لويس الشهير في «واشنطن بوست» الأميركية منذ بضع سنوات عن «أوروبا والمسلمون: ناقوس الخطر القادم» مثيرا للخوف لدى الأوروبيين: «ما مدى إمكانية أن يصبح مسلم مهاجر استقر في أوروبا وفي شمال أميركا وفي أماكن أخرى جزءا من تلك البلاد التي استقر فيها مثلما فعلت العديد من موجات المهاجرين؟».

وللمزيد من زراعة الألغام يجيب برنارد لويس: علينا أولا مواجهة الاختلافات الأساسية لما يعنيه بالضبط الاستيعاب والقبول وفي هذا المجال - بحسب رأيه - يوجد اختلاف فوري وواضح بين الموقفين الأوروبي والأميركي. فالمهاجر الذي يصبح أميركيا يعني له تغيير الولاء السياسي أما المهاجر الذي يصبح فرنسيا أو ألمانيا فالأمر يصبح تغيير الهوية الاثنية، وتغيير الولاء السياسي أسهل بكثير وعمليا أكثر من تغيير الهوية الاثنية سواء في مشاعر الشخص أو في مقياس القبول.

ما معنى هذا الحديث؟

يعني أن المسلم في أوروبا سيظل ولاؤه وانتماؤه عرقيا دينيا وأيديولوجيا أكثر من كونه سياسيا وفي التحليل ولا شك ربط بالنتيجة التي استنتجها كثيرا في قراءاته ولا تخلو من عنصرية واضحة وهي أن المسلمين قوة تدمير لا قوة بناء.

ولأن الهجرة من العالم العربي والإسلامي وشمال أفريقيا إلى أوروبا هي الأوسع والأعرض، فلذلك يبدو جليا أن التأثيرات السلبية لقراءات لويس ستمتد بأسوأ مشهد إلى الأوروبيين من جذور إسلامية، الأمر الذي يحمل هواجس وشكوكا قابلة للأسف للتحقق لتأكيد نظرية التصادم لا التلاقي أو التحاور.

ذات مرة كتب الراحل الكبير الدكتور إدوارد سعيد مقالا عنوانه «الإسلام من خلال عيون غربية» قال فيه «بدلا من توضيحها وتهذيبها ساهمت النخب الثقافية ومواقع صنع القرار في الولايات المتحدة في تعزيز وتكثيف الصورة النمطية للإسلام كتهديد للغرب من رؤية زيجينو بريجنسكي في هلال الأزمات إلى نظرية برنارد لويس في عودة الإسلام لتبدو الصورة المرسومة موحدة ومفادها أن (الإسلام يعني نهاية الحضارة كما نعرفها) و(الإسلام ضد الإنسانية ومعاد للسامية ولا عقلاني)».

لماذا امتنع لويس عن أن تكون صيحته للساعة الحادية عشرة إيجابية بالمطلق دون بذر الكراهية وتعميق العداوات في الجزء الثاني منها؟

تساؤل مفتوح ويستحق من النخبة الفكرية العربية والإسلامية إعادة قراءة حركات الاستشراق والتعاطي معها بمبادرات إيجابية واعية من دون الاكتفاء بموقف المدافع لجهة هجومات بطريرك الاستشراق ونظرياته الابوكريفية هو ومن لف لفه شرقا وغربا حول العالم.

* كاتب مصري