التضليل الفكري بين الزعم والحقيقة

د. عيسى الغيث

TT

من الصعب على الكاتب أن يجعل من نفسه قاضيا ليحكم على الآخرين، ولكن حينما يجد الكثير من حملة الأقلام يقومون بنفس الدور، وبشكل وموضوع غير شرعيين، حيث تجده يضع نفسه المالك للحق المطلق، والآخر هو القابل للجمع والطرح وحتى التقسيم، حيث تجد في المكتبات الكثير من الإصدارات التي جعل صاحبها له الحق في تصويب هذا وتخطئة الآخر، على حسب رأيه واجتهاده وربما ذوقه، والمشكلة تكبر حينما يضيف لكلامه الاستدلالات المقدسة التي لا يجوز الاستقواء بها لرأي شخصي بهذا التفرد.

كنت خلال الفترة الماضية أقول في نفسي ولمن حولي: لماذا لا يكون لدينا في العالم العربي والإسلامي مراكز للبحوث والدراسات بشتى احتياجاتنا الدينية والدنيوية، حيث نرى في الغرب الكثير من هذه المراكز المتقدمة التي تبني نتائجها على دراسات علمية موضوعية، وتصبح محل التقدير والتنفيذ من صاحب القرار، ولكن حينما فرحنا في وطننا العربي والإسلامي ببعض هذه المراكز المحدودة عددا وعدة؛ إذا بنا نرى أنها موجهة ومؤدلجة، ومقررة نتائجها قبل الشروع في بحوثها ودراساتها. وهنا نفرق بين الحياد والانحياز، فالحي هو الذي يخلق بعقله قناعاته والميت هو الذي تخلق قناعاته لعقله.

من المعروف أن الواجب على الباحث عن الحق أن يستدل ثم يعتقد، لا أن يعتقد ثم يستدل، ولذا لو سألنا أنفسنا عدة أسئلة منطقية لنصل بعدها إلى تشخيص حالنا اليوم: فكم مرة تغير رأينا حينما درسنا المسألة؟ وكم مرة تغير رأي أحد منا حينما تمت محاورته؟ بل وكم مرة التزمنا بموضوعية الحوار وآدابه؟ ولو نظرنا إلى البرامج الحوارية الفضائية الغربية للاحظنا مستوى المنطق والأخلاق وإعطاء الحق للآخر بأن يرى ما يعتقده صوابا، في حين أننا كمسلمين نحتفظ بتنظيرات ورقية ولسانية حول هذه المسلمات العلمية والأخلاقية، ولكن عند الممارسة الميدانية تخرج لنا حقائق الالتزامات الفكرية.

وسأعطي مثالا يدركه الكثير من المثقفين، وهو أن بعض المنظرين يرمي البعض الآخر بأنه مقرب من السلطة السياسية ويدافع عنها لا لأنه يعتقد صوابها وإنما لمكاسب دنيوية، في حين أننا لو رجعنا للواقع لرأينا الكثير ممن يتم رميهم بهذه التهمة من المخلصين لأفكارهم لا لمصالحهم، في حين لو رأينا الآخرين للاحظنا أنهم يوالون الحزب ويدافعون عنه ويغلظون في ذلك وهم في كثير من حالاتهم يعرفون أنهم على الباطل ولكن المصالح الفردية المكتسبة من الانتماءات الحزبية تبرر لهم ذلك، والأسوأ حين يتم تجويز هذا الفعل بأنه قربة إلى الله، ولذلك يقل في زماننا وجود المستقلين عن انتماءاتهم الحزبية ممن يملكون الشجاعة لمخالفة الانتماء عند حضور الذمة، وكان الله في عون المخالف بعد الشجاعة النادرة حيث سيتم تسريحه لكونه من المشاغبين، في حين لا نجد الأنظمة السياسية غالبا تعامل مواطنيها بهذا الشكل، وإلا لامتلأت الشوارع بالمسرحين. وهنا مكمن المشكلة حينما يكون الولاء للحزب مقدما على الولاء للحق والمجتمع والمصلحة العامة. فتجده حينما يتكلم ويكتب فلمصلحة الحزب وبتوجيهه، وحتى حينما يسكت فلمصلحته الشخصية، وإذا كان هذا المنهج المكيافيللي غير مستغرب في الأحزاب الدنيوية فيكون جريمة دنيوية وكبيرة أخروية عندما يصدر عن الأحزاب الدينية.

أسوأ ما أراه في حياتنا العربية التناقض بين القول والفعل، والغريب في الأمر أن الكثير من الإسلاميين يركز على مصطلح النفاق ويوزع التهم على الآخرين بأنهم من المنافقين، وذلك لمجرد أنهم خالفوا رأيه أو ساروا بعكس مصالح حزبه، ولكن عندما نتحقق من النفاق الحقيقي نجده في مسلك بعض هؤلاء القوم الذين خالف قولهم فعلهم، وخالف نظرهم تطبيقهم، ولذا من المعروف التفريق بين النفاق العملي والاعتقادي، والاعتقاد من البواطن التي لا يعلمها إلا الله، ولكن الظاهر يراه الجميع ويعيه العقلاء في الأمة.

وبناء على ذلك نحتاج لمراكز دراسات وبحوث تكون تطبيقا للمقولة الخالدة «المؤمن مرآة أخيه»، فكم نحن بحاجة لمراكز المرايا لبحث الأخطاء لتصويبها ودراسة الخطايا لتلافيها، لا لمراكز التضليل الفكري التي تضيف إلى تخلفنا الفعلي تبريرا علميا مزعوما، من أجل أن نخدر أنفسنا وتصبح هذه المراكز كأفيون لعقولنا، ولا نرى إلا الآخر دون أنفسنا، وحتى حينما نراه فلا نتكلف إلا سلبياته دون أن نبحث عن إيجابياته لنستفيد منها، والحكمة ضالة المؤمن، فكم من الحكم التي نجدها عند غيرنا فنستوردها، وكم من حكم لدينا فنصدرها، لا أن نستورد الانحلال ونصدر الغلو.

من المعروف أن هناك مرجعيات معرفية تحدد سياسة الفرد والمؤسسة، ولكن إن كانت هذه السياسات من الأصول والكليات فهي محدودة، ولكن إن كانت من الفرعيات والجزئيات فهي الغالبة، وهنا محل الاجتهاد والنظر، فالمريض حينما يكابر ويزعم الصحة، فلا أمل في شفائه، ولكن حينما يعترف بمبدأ الخطأ وصحة وجوده وظهور أعراضه، فضلا عن تقبله النقد والسعي في الإصلاح، فحينئذ يكون الأمل في العلاج والتطور.

وحتى لا أكون مبالغا، لو سألت الكثير من القراء: كم هي الكتب التي قرأتها لتستفيد منها لا أن تعيب وتستعيب؟ وهل هذه الكتب من الموافقة لرأيك أم من المخالفة لتوجهاتك؟ وهل لديك قرارات مسبقة للقراءة بحيث لن تقبل إلا ما سبق لك القناعة به ولن ترد إلا ما سبق لك النفور عنه؟ والأهم من هذه الأسئلة كلها: كم مرة غيرنا آرائنا بعد قراءاتنا؟ وهل لدينا القناعة بقابلية التغيير الذاتي والتطوير المعرفي لثقافتنا؟ أم أننا قد قررنا سلفا كل آرائنا وتوجهاتنا؟ ومن المسلم به أن الثوابت ليست مكانا للتغيير، ولكن كم نسبة الثوابت من المتغيرات، وكم نسبة الدينيات من الدنيويات التي هي في دائرة المباحات؟! كثيرا ما يتم تضليل العموم لأجل البقاء في مربعاتهم التقليدية، وحينما يخرج منهم عاقل متميز يبادر بجهود ذاتية للمعرفة الحقيقية والتنمية الفكرية حتى يبدأ النيل منه، وهذا ملموس في كثير من بلادنا العربية، وزادت آثاره في زمن الثورة المعلوماتية التي أوصلت الآثار إلى أطراف العالم في لمح البصر عبر ضغطة الإنتر، فأصبحت أخطاؤنا في زمن العولمة لها حكم الخطايا لسرعة تفشيها وأثر نتائجها.

ولدينا في العالم العربي الكثير من النماذج الفكرية التي ينبغي الاستفادة منها، فمن المغرب العربي نجد التطورات الفكرية عبر تراكمات عملية وخبرات شخصية بنت فكرا مقاوما للتضليل، وهكذا الأمر في بلاد كثيرة، ومن حقنا - فضلا عن واجبنا - أن نبحث عن الحكمة أينما حلت وارتحلت، فمن كندا حيث التنوع الديموغرافي، وحتى سنغافورة التي عرفت كيف تصنع الأرضيات الصلبة، ومرورا بتركيا التي عرفت كيف تطبق القواعد الفقهية والمقاصد الشرعية.

إن التضليل الفكري اليوم الزاعم بتملك الحقيقة المطلقة، والنيل من الحقيقة الغائبة، لهو المتسبب في تخلفنا الفكري الذي أخرج لنا التخلف الميداني، ومن خطأ الفكر إلى خطيئة الفعل، ومن جنحة الرأي إلى جريمة التبرير التي جعلت البلاد العربية مجتمعة لا تساوي بعض الناتج الاقتصادي لواحدة من الدول غير المستلقية على آبار من الطاقة، وإنما قائمة على أيدي رجال يفكرون بعقولهم ويعملون لزمانهم مع احترامهم ثوابتهم وتمسكهم بمبادئهم ومحافظتهم على قيمهم وحتى عاداتهم وتقاليدهم، وإذا كان الفعل الخاطئ جريمة، فإن الجريمة الأشد والمصيبة الأعظم حينما نبرر هذا الفعل والتخلف عبر التضليل الفكري.

* كاتب سعودي