الفتاوى الشاذة بين الإباحة والتحريم

د. عيسى الغيث

TT

سبق لي الكتابة في مسألة الفتاوى الشاذة لعدة مرات، ولكن الموضوع ليس مقتصرا على بلد وإنما هو مشكلة عربية بامتياز، حيث أصبحت هذه الفتاوى اليوم لها أثر أكبر من الأمس، نظرا لسرعة انتشارها التقني ومستوى أثرها على المتلقين، وإثارتها للبلبلة بين الناس، إلا أن التطرق لهذه المسألة انصب على جهة واحدة من الفتاوى الشاذة دون الجهة الأخرى، بحيث نجد الهجوم على من يبيح دون أن نرى الحسبة على من حرم المباح، وكذلك نرى الاحتساب على من لم ير وجوب بعض المسائل ورأى أنها في حكم المستحب دون أن نرى الحسبة على من أوجب ما ليس بواجب. وعلى ذلك نجد أن غالب الشذوذ في جهة تحريم المباح أو إباحة المحرم وجهة إيجاب المستحب أو استحباب الواجب، كما أنه من جهة يعد حراكا علميا وحيوية فقهية حينما يتحاور المختلفون بعلم وأدب، ولكن حينما يبلغ الأمر إطلاق الشذوذ على الفتاوى المخالفة لمجرد عدم قبول البعض بها، فهنا نقع في الشذوذ ذاته، لأن الفتوى هي جواب الفقيه عن سؤال سائل، مبينا الحكم الشرعي في واقعة معينة، فإذا لم تكن الفتوى مبنية على دليل شرعي معتبر فتكون شاذة، ولا ينبغي الوقوف أمام ما يزعم بأنه شاذ إذا كان قد أفتى بجواز أمر أو لم يوجب أمرا ما، في حين نترك من يحرم المباح أو يوجب ما ليس بواجب، لأن الجواب الشرعي هو جواب يبين موقف الاجتهاد الشرعي في مسألة معينة، ولا يكون شرعيا إلا إذا كان قائما على الأدلة الشرعية، وهي القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، والإجماع المتيقن، والقياس على المجمع عليه أو النص، إضافة إلى الأدلة الفرعية، فإذا لم تكن الفتوى مبنية على ذلك فتكون حينئذ شاذة، خصوصا إذا خالفت الاتجاه العام للأمة عبر التاريخ والجغرافيا والواقع، ولا تعتبر الفتوى التي تخالف المذاهب الأربعة شاذة لأن المذاهب الأربعة لا تمثل الإجماع، فهناك مذاهب غير الأربعة انقرضت، مثل مذهب الإمام الثوري، وابن حزم، والأوزاعي، والطبري، كما أن هناك فقها غير مبني على مذهب معين، مثل الفقه أيام الصحابة والتابعين، لأن المقصود بالشذوذ في الفتوى أن يصدر المفتي فتوى لا تقوم على أصل، أو لا تقع موقعها، فلم تستدل بالدليل الصحيح الذي يدل على الحكم الذي يريده، فتكون بذلك قد شذت بطريق وحدها، وليست سائرة على النهج المستقيم الذي يسلكه العلماء.

ولكن هناك من العلماء من انفرد بآراء لم يقلها العلماء الآخرون، كما أن الصحابة بعضهم انفرد، كابن عباس انفرد بآراء، وابن مسعود انفرد بآراء، ولما جاء الإمام مالك وكلفه أبو جعفر المنصور بتأليف الموطأ، قال له: تجنب فيه رخص ابن عباس، وشدائد ابن عمر، وشواذ ابن مسعود. وحتى الصحابة يمكن أن يشذ أحدهم برأي، والإمام أحمد له آراء انفرد بها، سموها المفردات، وهذا لم يضر الإمام أحمد؛ لأن له أدلته التي يعتمد عليها، كما أن الشذوذ أمر نسبي يتغير بتغير الزمان والمكان، وهذا يحدث فعلا، فقد رأينا في التاريخ أقوالا تعتبر في زمانها شاذة لأنها سبقت عصرها، ثم جاء زمن آخر فأقرها، ومن أشهر الفتاوى التي اعتبرت شاذة في عصرها، ثم تم ترجيحها بعد ذلك فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم، حول قضايا الأسرة والطلاق، مثل الطلاق الذي يراد به الحمل على شيء أو المنع منه، والطلاق الذي يراد به اليمين، والطلاق المعلق، والطلاق الثلاث بلفظة واحدة، والطلاق البدعي، وطلاق المرأة الحائض، أو المرأة التي مسها زوجها في هذا الطهر. وهذه الفتاوى حوكم من أجلها ابن تيمية، وخالفه علماء عصره، واعتبروا أنه خرق الإجماع، ودخل من أجلها السجن، ومات ابن تيمية - رحمه الله - في السجن من أجل هذا، لكن هذا القول الذي اعتبر شاذا في السابق تبناه أكثر العلماء في عصرنا ولجان الفتوى وقوانين الأحوال الشخصية، واعتبر سفينة الإنقاذ للأسرة المسلمة. كما أن الفتاوى الشاذة ليست مرتبطة بمن يتصدرون للفتوى بغير علم، فقد تصدر من إمام عالم أو مجتهد، لأن العالم المجتهد ليس معصوما، ولكن هذه لا تسقط منزلة العالم.

ويجب أن نكون معتدلين في الحكم على الفتاوى الشاذة، فقد لا تكون كذلك، وإذا ثبت الشذوذ فيكون الاحتساب عليها بعلم وأدب، ومن هؤلاء المحتسبين شيخ الإسلام ابن تيمية، كما نقل عنه تلميذه ابن القيم في «إعلام الموقعين»: «وكان شيخنا شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجعلت محتسبا على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب؟»، ولهذا احتسب تلميذه الحافظ ابن كثير، وقال: «وكان للشيخ تقي الدين من الفقهاء جماعة يحسدونه؛ لتقدمه عند الدولة، وانفراده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة الناس له، ومحبتهم له، وكثرة أتباعه، وقيامه في الحق وعلمه وعمله»، وهذا هو السر في اتهامه بفتاوى شاذة هو منها براء، مما كان سببا في إيداعه السجن عدة مرات.

والفتاوى الشاذة مشكلة قديمة، ومن ذلك ما ذكره الكاساني في «بدائع الصنائع»، حيث قال: «روي عن أبي حنيفة أنه كان لا يجري الحجر إلا على ثلاثة: المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس؛ لأن المنع عن ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المفتي الماجن يفسد أديان المسلمين، والطبيب الجاهل يفسد أبدان المسلمين، والمكاري المفلس يفسد أموال الناس في المفازة، فكان منعهم من ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». ولكن لا يعني هذا أن كل من أباح شيئا فهو ماجن، فقد يكون الحق معه، كما قال الخطيب البغدادي: «ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقره، ومن لا يصلح منعه ونهاه وتوعده بالعقوبة إن عاد»، وقال: «وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتيا أن يسأل عنه علماء وقته، ويعتمد أخبار الموثوق بهم»، وليس الصالح للفتيا هو المتشدد والمرجح للتحريم، وإنما المرجح لقوة الدليل ولو كان هو المباح من جهة وغير الواجب من جهة أخرى، كما قال ابن القيم: «من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضا»، ومن ذلك من يشدد على الناس ويحرم المباحات ويوجب ما ليس من الواجبات.

وقد تحدث الإمام ابن القيم في «إعلام الموقعين» عن هذا الموضوع، وذكر الرأي الباطل وأنواعه، فقال: «وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، ولا تحل الفتيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد، وكل من له مسكة من عقل، يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، ولا في أمة إلا فسد أمرها أتم الفساد، فلا إله إلا الله كم نفي بهذه الآراء من حق، وأثبت بها من باطل، وأميت بها من هدى، وأحيي بها من ضلالة، وكم هدم بها من معقل الإيمان، وعمر بها من دين الشيطان!».

* كاتب سعودي