كتب الجهاد والسير ومحمد النفس الزكية

رضوان السيد

TT

قبل قرابة القرن من الزمان، ومع تجدد الحديث في مسائل الجهاد والعلاقات الدولية أو علاقات الحرب والسلم في الإسلام، أعيد اكتشاف كتاب السِيَر لمحمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة، والمتوفى عام 189هـ. وكان المعروف من كتب الفقه الحنفي، وكتب التراجم والطبقات أن للشيباني كتابين في السير والجهاد: السير الصغير، والسير الكبير. وعندما جُمعت مخطوطات الكتاب القليلة من اسطنبول والهند وأوروبا، ما أمكن التمييزُ بين الصغير والكبير رغم العودة إلى كتاب المبسوط للسرخْسي، الذي يبدو أنه اعتبر الكبير شرحا للصغير، وأورد أكثرهما في باب الجهاد والسير من مؤلَّفه الضخم. ويبدو أيضا أن التسمية بالسير قديمة، لأنها ترد عند الأحناف والمالكية على الخصوص، في حين يؤثر الشافعية والحنابلة التسمية بالجهاد. وعندما طبع كتاب الشيباني (أو كتاباه) أخيرا بين الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي على أيدي الدكتور صلاح الدين المنجد وعبد القادر أحمد ومجيد خدّوري، صرنا نعرف أن كتب السير تختلف عن كتب الجهاد في البنية أيضا، وليس في التسمية فقط. ففي كتب الجهاد (وأقدمها كتاب عبد الله بن المبارك المتوفى عام 161هـ) تركيز على فضائل المجاهدين والشهداء؛ بينما تنقسم كتب السير بعد المقدمة في الفضائل، إلى أربعة أقسام: أحكام الجهاد والغزو والغنائم والأراضي المفتوحة، وأحكام أهل الذمة والمستأمنين، وأحكام الردة والمرتدين، وأحكام البغاة.

وبذلك، فهي تعالج كل أشكال «القتال» ونتائجها أو ما يترتب عليها من أحكام. فالسير (جمع سيرة) معناها هنا السنة أو السنن التي اتبعها الرسول صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه في هذه الأمور. والملاحظ أن هذا النوع من الكتب ظهر في الثلث الأول من القرن الثاني الهجري، وامتد إلى أواسط القرن الثالث وحسب، أي لنحو القرن من الزمان. أما بعد ذلك، فصارت الأقسام الأربعة فصولا في كتب الفقه العامة، أو ألفت في كل قسم كتب مفردة، وما عادت تجمع في كتاب واحد تحت تلك التسمية. وقد اختلف العلماء في الأولية إذا صح التعبير، أي من الذي سبق إلى التأليف في السير. فشيخ الإسلام ابن تيمية ذهب إلى أن أهل الشام كانوا سباقين إلى هذا النوع من التأليف، لأن الجهاد استمر في ناحيتهم لاستمرار الصراع مع دولة الروم أو البيزنطيين، وهو يستشهد على ذلك بكتاب السير للإمام الأوزاعي (157هـ)، وكتاب السير لأبي إسحاق الفزاري (186هـ) تلميذ الأوزاعي، وكلا الرجلين كان يرابط بسواحل الشام ودروبها وثغورها وعواصمها.

وما وصل إلينا كتاب الأوزاعي، لكن وصلت إلينا مخطوطة مغربية تتضمن أجزاء من كتاب الفزاري مملوءة بروايات عن الأوزاعي، كما أن الطبري (310هـ) في أقسام الجهاد والجزية من موسوعته في «اختلاف الفقهاء» يكثر من النقل عن الأوزاعي. ويبدو أن أولية أهل الشام في هذا النوع من التأليف صحيحة من الناحية التاريخية، لأن أبا يوسف (182هـ) تلميذ أبي حنيفة الأكبر كتب في خمسينات القرن الثاني رسالة في الرد على سير الأوزاعي، أورد فيها آراء شيخه أبي حنيفة (150هـ) في ثلاثين مسألة اختلف فيها مع شيخ أهل الشام في مسائل الجهاد.

وبعدها أقدم الشيباني على الكتابة في السير، ربما بتكليف من هارون الرشيد، كما سبق أن كلف الرشيد نفسُه قاضي قضاته أبا يوسف بالكتابة في الخراج.

كنت قد تنبهت إلى هذه الأمور في ثمانينات القرن الماضي، عندما ظهرت نشرة الدكتور نزيه حماد لكتاب عبد الله بن المبارك في الجهاد، ونشرة الدكتور فاروق حمادة للباقي من كتاب أبي إسحاق الفزاري في السير. وقد قرأت النشرتين قراءة نقدية في مجلة الأبحاث بالجامعة الأميركية ببيروت عام 1986. وعندما ذهبت عام 1988 للتدريس بجامعة صنعاء، نبهني الأستاذ مادلونغ إلى وجود رسالة في أحكام أموال البغاة لمحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن (= النفس الزكية) الثائر على المنصور العباسي بالمدينة عام 145هـ، بالجامع الكبير بصنعاء.

وعندما اطلعت على المخطوطة الصغيرة، لاحظت أنها ينبغي أن تكون قسما من كتاب أكبر في السير. وبالفعل، فقد تتبعت كتب الفقه الزيدي المبكرة مثل «الجامع الكافي» لأبي عبد الله العلوي، و«التحرير» للمؤيد بالله، و«الانتصار» ليحيى بن حمزة؛ فوجدت أنهم ينقلون في أبواب الجهاد والسير نقولا كثيرة عن محمد النفس الزكية، الذي يعتبرونه من أسلافهم في المنزع والمذهب، ويبدأون تلك النقول بالقول: قال محمد بن عبد الله النفس الزكية في كتابه في السيرة أو السير. وهكذا، فقد استطعت أن أجمع زهاء الخمسين شذرة في المواضيع الأربعة لكتب السير، تنسب كلها صراحة إلى النفس الزكية. وخلال ذلك، رجعت إلى ترجمة النفس الزكية في كتب تراجم الزيدية فوجدت أن مترجميه يقولون إنه سبق إلى التأليف في السير والجهاد، وإن الشيباني بنى كتابه على عمل النفس الزكية! وبالمقارنة بين ما جمعت، وسير الشيباني، ما وجدت دليلا أو إثباتا لذلك، لأن مواطن التشابه قليلة. بل الطريف أنني وجدت تشابها أكبر بين فقه النفس الزكية في السير وفقه الإمام مالك في الموطأ والمدونة. وهكذا، فنحن أمام ثلاث مدارس أو اتجاهات في مسائل السير والجهاد: اتجاه أهل المدينة، واتجاه أهل الشام، والاتجاه العراقي. ولا شك أن النفس الزكية الذي استشهد عام 145هـ ألف كتابه في عشرينات القرن الثاني أو ثلاثيناته، فهو معاصر في التأليف للأوزاعي أو قبله بقليل. ولأن الكتاب ما وصل إلينا كاملا، فلا يمكن القطع بأسلوب التأليف، إنما الجزء الخاص بأحكام البغاة يرد على طريقة السؤال والجواب شأن الكثير من مؤلفات القرنين الثاني والثالث. ولا يعتني النفس الزكية (والإمام مالك) كثيرا بمسائل الذميين والمستأمنين والمرتدين؛ بل يعتني بمسائل الجهاد ومسائل البغاة (أو الخارجين على السلطان بتأويل سائغ). ويفصل النفس الزكية كثيرا في أحكام الأموال التي يكتسبونها أثناء خروجهم، وما يكسبه آخرون بأمر منهم، ومتى يجوز استعادة أو إعادة ما اكتسبوه إلى أصحابه الأولين.

وترددت طويلا في نشر ما جمعته من شذرات النفس الزكية، لأنني ما رأيت ذكرا لهذا المؤلف في غير كتب الزيدية، مع أن سائر المؤرخين يذكرون رسائله إلى المنصور ورسائل المنصور إليه. ثم رأيت أخيرا - بعد أن كثر الحديث عن التأليف في الجهاد والبغاة والفقه الدولي في الإسلام - أن هناك فائدة في الدراسة والنشر، لزيادة الاطلاع على وجوه التفكير المبكرة في هذه المسائل في الحواضر الإسلامية؛ بالإضافة إلى الفائدة المتأتية من التعرف على أساليب الجمع والتوليف في الرسائل الأولى المدونة في شتى المواضيع خارج المرويات الحديثية.

ومن الناحية المضمونية؛ فإن نشر هذه الرسائل المبكرة ومقارنتها مفيد في التعرف على رؤى الفقهاء في الجهاد وعلائقه بالدولة، والتعرف على بدايات ظهور مفهومي دار الإسلام ودار الحرب.