غازي القصيبي.. والغزوة الأخيرة

عيسى الغيث

TT

هكذا هي الحياة، ميلاد ووفاة، ولكن ما بينهما من غزوات تفرق بين إنسان وآخر كما تفرق بين الثرى والثريا، وحينما يكون الغازي مثل غازي القصيبي، فلن يكون بمقدورك أن تتجاوز مسيرته الطويلة عبر سبعة عقود بكل سهولة، من ميلاده في الأحساء تلك المدينة الجميلة التي تحمل بساطة الإنسان وتنوع الآراء سواء الفقهية أو الفكرية، ومرورا بالبحرين، حيث النشأة، وحتى القاهرة، حيث البكالوريوس في القانون، ثم لوس أنجليس لنيل الماجستير في العلاقات الدولية عن ديناميكية التفاعل بين القوة والمصلحة القومية، وذلك عبر نقد علمي بليغ لأطروحة البروفيسور الأميركي العتيد في جامعة شيكاغو هانز مورجنثاو، وذلك وهو ابن الخامسة والعشرين! ثم في ما بعد إلى لندن للدكتوراه وخلال أقل من ثلاث سنوات في رسالة عن ثورة اليمن عام 1962، لكونه مستشارا قانونيا في الوفد السعودي المفاوض مع بعض الأطراف اليمنية، وذلك إبان الصراع الدموي على السلطة بين جناحي الملكية والجمهورية في اليمن الشقيق، حيث رصدها وحللها، كنموذج للدارس النابه والدراسة الهامة التي لها علاقة بالحياة وحاجاتها، ثم تبدأ مسيرة الحياة ودفع زكاة العلم بالعمل، والتحصيل بالبناء، والخدمة بالعطاء، خادما دينه ووطنه لأرضه ومواقفه وقضاياه، فقد كان شامخا في كل ساحة يدافع عن الحق وينصره، وما موقفه إبان محنة احتلال الكويت إلا كنموذج على الأخوة الصادقة، والمسؤولية الكبيرة، والعقل الراجح، حيث كان قلمه يوميا يحلق على صفحات هذه الجريدة «الشرق الأوسط» عبر عموده «في عين العاصفة»، وكم غزا هذا الغازي الشجاع في أكثر من عين عاصفة، وما تلك السلسلة الذهبية في خضم كارثة عام 1990 «حتى لا تكون فتنة» إلا معلم من معالم ذلك الفارس، الذي كان مثقفا كبيرا وكاتبا نحريرا، ومع ذلك نجح نجاحا باهرا في أعمال الدولة والشأن العام، جامعا بين العلم والعمل، وهي ميزة نادرة الحصول في كل العصور، ومع كل تلك الإمكانات والمكانات؛ إلا أنه بقي رفيع الخلق وواسع الصدر تجاه الخصوم قبل الأصدقاء، ومجاهدا في كل غزواته، حتى غزوة السرير الأبيض، الذي لم يترك فيها القراءة والمتابعة، والشعر والكتابة، وحتى الترجمة والتواصل، فكم أتعب من بعده، بعد أن أتعب نفسه! والله دون سواه الذي يجازيه خير الجزاء.

سبعون عاما مضت على أخينا وحبيبنا غازي مليئة بالخبرات والمنتجات والنماذج الناجحة للإنسان وأعماله، فكان موسوعة في كل أشيائه، ففي حياته موسوعة في تنوع أماكنها، وفي دراسته من حيث تعدد أراضيها، وفي اهتماماته بتعدد اطلاعاته، وفي منجزاته بتعدد مسؤولياته، وفي نجاحاته بتعدد مخرجاته، سواء كانت عبر الصباح بالمناصب التي قادها نحو الفلاح، أو كانت عبر المساء بالكتب والمؤلفات التي جمعت من كل الفنون والعلوم، فكان رجلا بأمة، وموسوعة في علمه وعمله ومؤلفاته وأخلاقياته، ولم يسمح للمناصب والجاه الذاتي والأسري بأن تشكل عوائق عيب وحواجز حياء وأسوار أرستقراطية لطبقة مخملية، كما لم يسمح لكل دنيويته ومكانته بأن تبعده عن ناسه ومجتمعه، فإن كتب شعرا قلت هو الشاعر ولا غير، وإن رسم نثرا قلت هو السارد ولا غير، وإن ظهر في اللقاءات الإعلامية قلت هو الحر الذي لا يكتفه منصب ولا علاقات رسمية وحساسة، وكل مرة يقال أوشك الغازي من سقوط الرمية، فما هو إلا الرامي ولا غير، والواثق بنفسه ولا غير، والمبهر لمن حوله ولا غير، حتى كثر المعجبون به، والمنبهرون بقدراته، والغائرون على تفرداته، فما برح لا يلتفت إلى الوراء، ولا يتطلع إلى غير السماء.

كم سمعنا من يقول بأن هذه الظروف الزمانية والمكانية غير مواتية لظهور رجال ناجحين ومتميزين، وما هذا إلا حيلة العاجز الذي أضاف لكسله التبرير لخطئه، وها هي قامة غازي تدلنا على النموذج المثالي للرجل الناجح والنافع، فقد أتعب نفسه خلال حياته من أجل قيمه ومبادئه ومصالح أمته ووطنه، وكم نحن بحاجة لدراسات علمية حول شخصيته وسيرته ومسيرته، لنعرف كيف بنى هذا الرجل العظيم، وكيف سار نحو المجد، وكيف جمع هذه النجاحات لشخص واحد وبجهود ذاتية، ليكون نبراسا لجيلنا نحو المزيد من الأمجاد.

ومنذ أن توفي غازي - رحمه الله - وأنا أتأمل الكثير من عبقرياته وموسوعيته في شتى مسالكه العلمية والعملية، ومنتجاته الوظيفية والفكرية، وكلما تعمقت أكثر في تراثه وأعماله، زاد إعجابي بقدراته وأخلاقياته، ومع أنه لاقى الكثير من العوائق والصدمات في مسيرة حياته، إلا أنه لم ييأس، ولم يفتر، فقام من بعد كل مرة من جديد، وبشكل يعد ليس له من مثيل، فهو مع الكبير كبير كالباب، ومع الصغير متواضع الجناب، ومع الأعداء غازٍ كالناب، لا يعرف الكلل، ولا ينتظر الملل، فهو أسرع من أن تصله السهام، وأعلى من أن تناله اللئام، وأعمق من أن يغوص معه ذوو الكلام.

وحين حضوري لحفل النادي الأدبي بالرياض بالتعاون مع صحيفة «الجزيرة» عند تدشين كتاب «الاستثناء»، لم أكن أتصور أنني لم أعد قادرا على لقاء غازي، حيث قدم الأستاذ خالد المالك محاضرة عنه بهذه المناسبة بمركز الملك فهد الثقافي بالرياض، ومنذ ذلك الحين وأنا أقلب هذا الكتاب الضخم الذي جمع فيه ما كتب عنه في ملحق الثقافية بصحيفة «الجزيرة» بجهد وفي من الدكتور إبراهيم التركي، ومنذ ذلك الحين وأنا أتردد على بعض كتبه لأقرأها وأستفيد منها، سواء كتابه الشهير «حياة في الإدارة» أو غيره عشرات من الإرث الكبير النافع، والكمال لله والعصمة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وغفر الله لغازي ورحمه وأسكنه فسيح جناته.

ومن منا لم يقشعر بدنه وينتفض قلبه من هذين البيتين اللذين كتبهما غازي وأرسلهما إلى الشيخ سلمان العودة وهو يقول:

أغالب الليل الحزين الطويل أغالب الداء المقيم الوبيل أغالب الآلام مهما طغت بحسبي الله ونعم الوكيل فهل هناك أكثر من هذه المعاني الروحانية والإيمانية الوجدانية التي حلق بها أبو سهيل، فقد غالب ليله الطويل لمواجعه، وغالب داءه المقيم بجسده، كما غالب الآلام مهما طغت وارتقت وصعب تحملها على الجبال الرواسي، وكل ذلك ليس بقدرته البشرية المجردة، ولكن بهويته وتوحيده لله رب العالمين، فهو حسبنا لا سواه، وعليه نتوكل في السراء والضراء.

كم رددت هذين البيتين ولمست صدقهما ومواجعهما وما يحملانه من هموم وغموم، كلها تحت المغالبة ما دام قد احتسبها عند الله وتوكل عليه في حال طغيانها، فيا لله كم في البيتين من إيمان ووجدان والتجاء لله رب العالمين! غازي مر من هنا، ولكنه ليس كغيره، فقد ترك البصمات والدروس، كما أبقى في نفوسنا العبرات على فراق أخ مسلم مؤمن مواطن مخلص، جعل من نفسه وعصاميته وتوكله على الله نموذجا يحتذى للسالكين في طريق عمارة الأرض وزينتها، فهو الأكاديمي والقيادي والروائي والشاعر وإلى آخر سلسلة الصفات الكريمة والأخلاق الحميدة، فهو لم يخسرنا، لأنه قدم إلى أرحم الراحمين، ولكننا نحن الذين خسرناه، وخسرنا بوفاته رجلا قل نظيره، فهو الوزير والسفير، والكبير بهمته ومع الصغير بتواضعه، والأنيق بهمته، والمتبذل بقلبه الكبير ويده المبسوطة.

وداعا يا غازي بعد معركتك الأخيرة، وإلى لقاء بإذن الله ورحمته وكرمه وجوده وإحسانه في الفردوس الأعلى من الجنة.

* كاتب سعودي