جاك بيرك.. قراءة رمضانية لضيف على الإسلام

إميل أمين

TT

بعد أن فرغت من ترجمة معاني القرآن الكريم كرست كل وقتي للقراءة في علم الحديث لأنني أعتزم عمل دراسة، إذا أمهلني العمر، حول الأحاديث النبوية الشريفة لإبراز ما تتضمنه من معان ومدلولات خصوصا أنني أحب هذه الأحاديث وأرى أنها تجمع إلى جانب الصبغة الدينية الصبغة الإنسانية التي يجد فيها المسلم والمسيحي على السواء المعاني الرفيعة التي تغذي الروح وتسمو بالعقل والوجدان.. هكذا تكلم المفكر الفرنسي الكبير الراحل جاك بيرك وهو مفكر قطعا تتوجب قراءته في شهر رمضان على نحو خاص لما له من علاقة بترجمة معاني القران الكريم على نحو خاص.

وربما لم تعرف فرنسا في عصورها الحديثة، بعد لويس ماسينيون قامة فكرية خدمت قضايا العرب والمسلمين، بقدر ما قدر لجاك بيرك أن يفعل، وإن كان الرجل قد لقي من الهوان ونكران الجميل ما جعله يمضي حزينا حزينا بعد أن لقي جزاءات كثيرة على شاكلة جزاء سنمار.

وجاك بيرك هو عالم الاجتماع الفرنسي المرموق في القرن العشرين، ومدير المعهد الفرنسي للعلوم واللغات الاجتماعية لفترة طويلة والمستشرق المتمكن وصاحب الرؤى الجريئة حول القضايا الثقافية العربية وأحد كبار الدعاة للثقافة المتوسطية.

في عام 1910 في مدينة وهران بالجزائر ولد جاك لوالده أوجستين بيرك أحد ضباط جيش الاحتلال الفرنسي وهناك درس في مدارسها الابتدائية والثانوية وسافر إلى فرنسا ليدرس علم الاجتماع في جامعاتها إلى أن أصبح ذلك العالم الاجتماعي ذا الطابع الفلسفي.

وفي فترة وجوده في المغرب ما بين عامي 1943 و1953 كتب في أوقات فراغه التي انتزعها من واجباته الرسمية «دراسة انثروبولوجية» عن مجتمع قبائل البربر منح على أساسها شهادة الدكتوراه في عام 1956 وفي الوقت نفسه كرسيا في التاريخ الاجتماعي للإسلام المعاصر والذي استمر في شغله حتى تقاعده في عام 1981.

يقول الكاتب والمفكر السوري الكبير جورج طرابيشي إن جاك بيرك الذي بدأ عالم اجتماع وانتهى مستعربا، كان يبطن أيضا قماشة فيلسوف، وإن أكثر ما ميز بيرك في عمله كمستعرب أنه أصر على التعامل مع الواقع الحي لا مع النصوص الميتة وفهم الاستعراب على أنه حوار بين ثقافتين: الأوروبية المسيحية، والعربية الإسلامية، وأن لدى كل منهما ما تقوله للأخرى وما تغني به الأخرى.

وللغوص أكثر في أعماق الجسر الذي مثله بيرك بذاته يلقي المرء نظرات على كتابه الذي هو أقرب إلى الوصية والذي جاء تحت عنوان «ويبقى هناك مستقبل» وهو ليس كتابا بل حوار مطول في تسعة عشر فصلا كان أجراه معه الناقد الأدبي الفرنسي «جان سور» في أعقاب إصداره لترجمته الجديدة للقرآن الكريم وهو حوار تحول بعد وفاة بيرك إلى ما يشبه الوصية الأخيرة.

ويهمنا هنا على وجه الخصوص الوقوف على موقع وموضع بيرك من الحاجة التاريخية والحضارية إلى أن يتحول المتوسط إلى بحيرة للمعنى «من خلال إعادة بناء الشراكة المتوسطية الأوروبية – العربية» لذا فإنه يؤكد على الحاجة الروحية الماسة إلى إعادة بناء الحوار الديني بين المسيحية والإسلام، وبيرك لا يخفي إيمانه المسيحي أو مذهبه الكاثوليكي لكنه يؤكد أن حياته الطويلة الأمد في أرض الإسلام وفي ثقافة الإسلام قد أحدثت تعديلا جوهريا في رؤيته للمسيحية بالذات، لا سيما أن الإسلام يرفض مفهوم الخطيئة الأصلية.

وفي نظر بيرك أن الله يحب الحياة لأنه خلقها وقد تكون الحياة مسرحا لقدر كبير من الألم والعذاب، لكنها أيضا مصدر كبير للفرح، وفرح الحياة هذا هو الذي يمكن للإسلام أن يعيد بثه في المسيحية فيما لو قيض لهما الدخول في حوار وتنافذ بوصفه «دين الفطرة» وهذا لا يعني طبعا أنه ليس لدى المسيحية ما تضيفه إلى المسلمين.

فكما أن الإسلام يحترم الطبيعة التي طبع عليها الإنسان فإن المسيحية كذلك تحترم الشخص الذي في الإنسان.

وهنا تحديدا يمكن أن تكون نقطة تلاقي المسيحية والإسلام، فمن شأن الإسلام أن يساعد على تطبيع الإنسان ومن شأن المسيحية أن تساعد على تأنيس الطبيعة وباجتماعهما تتطبع الثقافة وتتثقف الطبيعة وتدب الحياة من جديد، فيما يحلو لبيرك أن يسميه أسطورة الأندلس، أسطورة أوروبا التي كانت في جزء منها يوما ما مسلمة والإسلام الذي كان من خلال رجالات العرب في الأندلس أوروبيا.

والحاصل أن الفارق الشاسع بين أطروحات بيرك الكاثوليكي للتلاقي مع العالم الإسلامي وبين أمثال المنظرين الجدد للبروتستانتية من أمثال جيري فالويل وبات روبرتسون الذين لا يرون في الإسلام إلا تراكما للسلبيات بدءا من النبوة ووصولا للحضارة يؤكد على أن بيرك لم يكن فقط صديقا للعرب بل كان واحدا من عمالقة الحوار الحضاري والديني قبل أن يشغل هنتغتون وفوكاياما ومن لف لفهما العالم في حوار الجهالات.

وفي الحديث عن بيرك وقنطرته يأتي الكلام عن الجدل المثار حول ترجمته للقرآن الكريم، لكن التسلسل المنطقي لبناء الجسر عند بيرك يقتضي منا التوقف أمام علاقته باللغة العربية وانفتاحه عليها وعن هذا الشأن يقول في كتابه «ويبقى هناك مستقبل»: لا شك في أنني أحب اللغة العربية لدرجة أنني حين أنطقها أستمتع بنوع خاص من اللذة الحسية والروحية معا.. والدليل على ذلك أنني لم أتعلمها فقط بل وأعلمها وكتبت واجتهدت فيها.. وأقصد بالتعليم هنا المتخصص الجامعي الأكاديمي، وقد كانت دراساتي متخصصة في الألسنة الكلاسيكية اللاتينية واليونانية وليس في العربية - إلا أنني أوقفت كل دراساتي على العربية وحظيت بما حظيت من خلال اهتمامي وتماسي مع العرب واطلاعي على النصوص العربية القديمة، التي حققت منها عددا لا بأس به إلى جانب مطالعاتي للتراث الكلاسيكي والمعاصر على حد سواء.. فمنذ عشر سنوات أحسست بنوع خاص من الجمود أو عدم التقدم في مضمار اللغة مما أقلقني وظننت بأن علاقاتي مع العرب تكفيني فوجدت أن ذلك لا يرضي مطالبي الشخصية ولا يشفي غليلي.. فذهبت بسرعة وبتركيز إلى الاهتمام بالمصدرين الأساسيين للعربية: القرآن والمعلقات العشر، وعلى الرغم من أن قيمتهما القدسية مختلفة ولا يتساويان إلا أنهما يشكلان عمود العربية الأساسي، ويمثلان مصدر الكلام العربي، ومنذ ذلك الحين حتى اليوم عكفت على دراسة هذين المصدرين الكبيرين، ولم تنقض سنة واحدة حتى أحس أصدقائي برقي ملموس في نطقي وتراكيبي اللغوية وهذا هو مختبر الحياة.

من هنا كانت البداية لترجمة بيرك الشهيرة للقرآن الكريم، وقد جاءت المقدمة في نحو 82 صفحة لم يشأ الرجل أن يجعلها في مكانها الطبيعي في أول الترجمة وإنما فضل أن يضعها في النهاية كدليل، وعندما سئل عن سبب ذلك أجاب أن كلام الله لا يجب أن يكون مسبوقا بكلام البشر.

ورغم ذلك فإن أحدا لم يتعرض لجحود ونكران مثلما تعرض له جاك بيرك من جانب العرب والمسلمين، وبخاصة ترجمته للقرآن الكريم، حتى إنه أوصى ذويه حال موته أن يضعوا داخل قبره نسختين من القرآن الكريم ونسخة من ترجمته حتى يعرضهما على الخالق تبارك اسمه في الحياة الأخرى، وكأن لسان الرجل يقول إذا لم أحصل على اعتراف من الأرضيين فإنني متعلق بحسن الجزاء من قبل رب السمائيين.

والشاهد أن أشد ما كان يؤلم جاك بيرك هو أن يوصف بأنه عدو للإسلام، لأنه وإن لم يكن المستشرق الوحيد الذي أمضى شبابه وكهولته وشيخوخته في دراسة حضارة العرب، فهو المستشرق الفرنسي الوحيد الذي دافع عن قضايا العرب والإسلام ولقي في سبيل حبه للعرب وصداقته لهم عنتا شديدا.

ويرى أن علاقته بالإسلام تصورها بحق كلمة «ضيف على الإسلام» ولذلك يود لو نظر إليه وإلى أعماله من خلال هذه العلاقة ويذكر أنه تعلم من أستاذه ماسنيون أن الإسلام هو محور العروبة، وأن العروبة بدورها هي محور الإسلام ولذلك توزعت أعماله لتدور في هذين المحورين.

ومع أن دور بيرك الرئيسي كان «تجسير الشطآن» إن جاز التعبير فلقد وقف المفكر الفرنسي الكبير كذلك عند حالة العالم العربي الممزق ناظرا ربما بعين الأوروبي والغربي مشخصا هذه الحالة بقوله: يبدو لي أن الشعوب الافروآسيوية قد وصلت إلى ما أسميه بالموجة الثانية بعد الاستقلال، ومعروف أن الموجة الأولى وصلت إلى أبعد النتائج وأبعد الخسائر وأن الخسائر تنفع بالطبع لكن شرط أن تحلل ما ينبغي وهنا أقول: إنه يطلب من العالم العربي أن يحلل كل ما يعني به من خسائر منذ جيل لكي يستنتج منه الوسائل المجددة.

وفي موضع آخر يحاول بيرك فض الاشتباك بين المطالبين بالعودة إلى المنابع واستلهام التراث كليا وبين أولئك الذين يركزون على ضرورة العصرنة، وغيرهم من المطالبين بإعادة قراءة التاريخ العربي برؤية جديدة فيعلن على مسؤوليته كمؤرخ أن الرجوع إلى الماضي ليس ممكنا لا للفرد ولا للجماعة.. والتراث ليس هو الماضي أبدا بل هو ما ينتج عن ذلك الماضي من كوامن مصيرية وقوى منتجة متجهة اتجاه السيلان الزمني ومواكبة العصر.

ورغم فواجع القرن العشرين نرى بيرك متفائلا ويقول: لدي الكثير من الآمال، لكنها آمال مشروطة فلو قيست المدة المقبلة بالمدة السابقة فلا أرى إلا نهضة عربية شاملة، وأوضح مما كانت عليه سابقا وأثقل وزنا في العالم، لكن بشرط وجود عقل عربي أعقل.

ويتساءل ألا يقول القرآن «يا أولي الألباب» «لعلكم تعقلون»، إذن الشرط هو الأخذ بالتحليل بدلا من الارتجال، وعدم خلط المستويات في السلوك وأقصد بالخلط هنا الخلط بين مستوى الخيال ومستوى العمل ولكليهما فائدته بالطبع كما يشترط ألا يختلطا، وحلمي أيضا أوسع من مصير العرب، إنه الحلم الذي يجتمع فيه مصير العرب مع مصير الشعوب اللاتينية.

عاش بيرك أمينا لحلمه بعد أن أدخل مصطلحات متعددة إلى الثقافة العربية وحمل الإسلام وكتابه الكريم إلى الحضارة الغربية، أما الحلم - المشروع الثقافي فهو إقامة أندلس جديد أو مجموعة أندلسيات جديدة حيثما التقت الحضارتان الأوروبية - المسيحية «جوازا» بالإسلام طيلة سبعة قرون.

وقد رأى بيرك على الدوام أن «المتوسطية» نقطة اللقاء بين الشرق والغرب وربما يكون هذا هو السبب وراء إعجابه بطه حسين الذي أفرد له دراسة عميقة خاصة عن جرأته العلمانية وقد التقى كثيرا مع العميد فيما أورده في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» والذي ذهب فيه طه حسين إلى حوض البحر المتوسط كمعين لا ينضب للحضارة والثقافة.

كتب بيرك أربعين كتابا جميعها عن العروبة والإسلام ماعدا كتابين. كان القاسم الأعظم في كتاباته والراية العالية لدعوته أن التعددية من أساسات العالم، ومن هنا جاءت قناعته بضرورة حوار الحضارات الأقرب جغرافيا إلى بعضها البعض، فكان بيرك وكما يقال جسرا جسورا مقداما في مضماره.

* كاتب مصري