ضرار بن عمرو بين التحرش والتحريش

رضوان السيد

TT

يترجم ابن النديم في «الفهرست» لضرار بن عمرو الغطفاني في فصل عنوانه: «ذكر قوم من المعتزلة أبدعوا وتفردوا»، وبين هؤلاء كل من عبد الرحمن بن كيسان الأصم وهشام بن عمرو الفوطي وعباد بن سليمان وأبو عيسى الوراق وابن الراوندي.. وصاحبنا ضرار بن عمرو. فابن النديم لا يزال يعتبره من المعتزلة وإن تفرد بآراء وتوجهات. ويرى أن تفرده جاء من «ميله على أمير المؤمنين علي»، رغم أنه من أصل كوفي، والكوفيون في القرنين الثاني والثالث شيعة معتدلة أو متطرفة. أما المعتزلة الآخرون فيعتبرونه «جهميا» وليس معتزليا، إذ إنه يقول بتأويل الصفات مثلهم، لكنه يثبت القدر بخلافهم. وتأتي شهرة ضرار من كثرة مؤلفاته التي قاربت المائة، ومن أنه غادر الكوفة في سبعينات القرن الثاني الهجري إلى بغداد بدعوة من البرامكة. وشأن ضرار مثل شأن سائر المتكلمين الأوائل، فقد ضاعت كتبهم وكتبه، وأمعنت في الضياع إلى حدود القرن الرابع الهجري. وما حفظت كتب القاضي عبد الجبار المعتزلي المتأخرة الكثير من آراء ضرار، لأن الإشكاليات كانت قد تغيرت. بيد أننا نعرف مجمل آراء ضرار ومعتزلة الأجيال الثلاثة الأولى بعد واصل بن عطاء، من تواريخ علم الكلام مثل طبقات المعتزلة للكعبي وعبد الجبار، ومثل مقالات الإسلاميين للأشعري، والملل والنحل للشهرستاني. وكان الأستاذ يوسف فان إس، المستشرق والمؤرخ المعروف لعلم الكلام، قد تنبه أواخر الستينات من القرن الماضي إلى أهمية ضرار بن عمرو في تطور الكلام المبكر، فجمع شذراته الباقية، وقام بدراستها في بحث مطول بالمجلات الألمانية المتخصصة، زادت صفحات حلقاته على المائة والعشرين. ثم عاد فترجم له ودرس آراءه في كتابه ذي الستة مجلدات بعنوان: «علم الكلام والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة».

لماذا نعود إلى ضرار بن عمرو اليوم؟ لأن كتابا منسوبا إليه تحت اسم «التحريش» ظهر مخطوطا قبل سنوات قليلة، إذ عثر عليه أحد مفهرسي المخطوطات الموجودة بجامع بلدة «شهارة» غرب صنعاء. والمخطوطة الباقية يعود تاريخ نسخها إلى عام 540هـ. ونحن نعرف أن الزيدية ومنذ القرن الثالث الهجري تبادلوا الاحتضان مع المعتزلة. وعندما استقرت لهم منذ القرن الرابع دولة باليمن، أقبل عليهم زيدية خراسان وطبرستان والجبال، جالبين معهم إلى اليمن الكتب الزيدية الكلامية والفقهية، وكتب المعتزلة من المدرسة البهشمية (مدرسة أبي هاشم الجبائي ابن أبي علي الجبائي)، التي سادت في الاعتزال المتأخر بعد القرن الرابع. إنما المحير هو الاحتفاظ بكتاب ضرار بن عمرو لدى الزيدية والمعتزلة المتأخرين. فالرجل أخرج من «الاعتزال الخالص» كما يذكر ابن النديم، منذ القرن الثالث. وإذا كانت كتب الخالصين المخلصين من جيل ضرار بن عمرو قد ضاعت، فلماذا تنوسخ كتاب ضرار بن عمرو هذا وبقي وإن في مخطوطة وحيدة، إذا صح أنها له بالفعل، فتكون أقدم مخطوطة معتزلية وصلتنا! يذكر ابن النديم في قائمته لكتب ورسائل ضرار بن عمرو الكثيرة، كتابا له بعنوان: كتاب «التحريش والإغراء»؛ ونعرف من كتب الآثار النبوية أن النبي (ص) نهى عن التحريش بين البهائم، أي تحريض بعضها على بعض من أجل التسلية والاستطراف أو التنافس والمفاخرة. وهذا ما فعله ضرار بن عمرو في كتاب التحريش، إذ إنه أقبل على عرض آراء سائر الفرق الكلامية الحاضرة في زمانه بالكوفة وما حولها، وبطريقة فريدة. فهو يتحدث على لسان «الفقيه» الذي يحتكم إليه أهل الفرق جميعا بسبب مرجعيته، وفي سائر المسائل. يأتي إليه المرجئة مثلا فيسألونه عن علاقة العمل بالإيمان، والمعروف أن المرجئة من أصحاب أبو حنيفة ( - 150هـ) بالكوفة ما كانوا يربطون بين الإيمان والعمل، بل يعتبرون الإيمان تصديقا لا يزيد ولا ينقص. فيوافقهم «الفقيه» على ذلك، ويستشهد للأمر بسيل من الآثار عن النبي (ص) والصحابة والتابعين التي تدعم وجهة نظر المرجئة الفاصلة بين الإيمان والعمل. ويذهب المرجئة مسرورين، فيأتي القدرية أو المعتزلة أو الإباضية إلى الفقيه ساخطين، ويقولون له: كيف توافق المرجئة في الفصل هذا؟ فيقول لهم «الفقيه»: لقد كذبوا على لساني، بل إن الصحيح أنه لا فصل بين العمل والإيمان، وأن الذي يخالف عمله قوله يخرج من المِلة (!) ثم يعود فيورد عشرات الأحاديث والآثار التي تدعم وجهة النظر الثانية. وما إن تتوقف الأمثلة عن الإيمان والعمل دون أن نعرف ما هو رأي «الفقيه» بالفعل، حتى تأتي إليه جماعة «من أهل السنة والجماعة» فتسأله عن الموقف من أبي بكر وعمر، فيقبل على الثناء والامتداح، قارنا ذلك بعشرات الآثار الصحيحة والضعيفة، إلى أن يمضي أولئك مسرورين، فيأتي أناس من «الشيع» حاملين على عثمان متولين لعلي، فيقف ضرار مع وجهة نظرهم ويدلل لهم على ذلك بنفس الطريقة، ليعود مع رفقة أخرى فيحمل على علي ويمتدح عثمان.. إلخ. وقد فعل ذلك على طول الكتاب في زهاء السبعين مسألة أكثرها من مسائل الكلام المتداولة في القرن الثاني بين الفرق المتصارعة، وبينها بعض المسائل الفقهية إنما التي تداولها المتكلمون أيضا! وهكذا وبفضل كتاب «التحريش» بتنا نملك خريطة تفصيلية لسائر الفرق الإسلامية بالكوفة، منتصف القرن الثاني الهجري تقريبا. لكن المفاجئ في الخريطة كبير وكثير. فكل الفرق الإسلامية حاضرة في المدينة بقوة، ومن ضمن ذلك عدة فروع للخوارج، وعدة فرق من القدرية والمرجئة والجهمية والمعتزلة. والمفاجئ كما قلت حضور «السنة والجماعة» في هذا الوقت المبكر. وضرار لا يحبهم وينبزهم بعدة ألقاب مثل الحشو والحشوية والمتزمتين أو المتسمتين، لكنه يتفق معهم في عدم الخروج على السلطان، وفي إثبات القدر، وفي موالاة أبي بكر وعمر وعثمان. أما الشيعة فيسميهم دائما الشيع، ويأخذ عليهم تطرفهم وتحزبهم، كما يأخذ على السنة مسالمتهم وتسليمهم. والأقرب والأحب إليه الجهمية والمعتزلة والإباضية، وإن اختلف معهم في عدة أمور. إنما الحاضر في أكثر أجزاء الكتاب فريقان أو ثلاثة فرقاء من «المرجئة» الذين يبدو أنهم كانوا الأقوى في الكوفة في زمانه، وهو شديد الكراهية لهم، ويسميهم «شهود إبليس»!.

أما الأكثر غرابة ومفاجأة فهي طرائق الرجل في الاستدلال. فأسلوب السؤال والجواب معروف في كتب القرنين الثاني والثالث. ويسمي الإباضية والزيدية رسائلهم أو فتاواهم بالجوابات. ويمتلئ «الفهرست» لابن النديم بعناوين كتب ورسائل مثل: السؤالات والجوابات، أو الجواب على، أو الرد على. ونجد آثارا من ذلك في رسالة الشافعي والأم وكتب أبي عبيد القاسم بن سلام والمحاسبي. فالغريب ليس السؤال والجواب، بل طريقة الاستدلال، وهي واحدة في ثلاثة أرباع الكتاب (باستثناء الجزء الأخير الجدالي في مسألة المعرفة والاستدلال)، وتقوم على إيراد عشرات الآثار الضعيفة والموضوعة والقصص التاريخي وأقاويل الإخباريين. وبسبب الإسراف في ذلك يصبح الرجل بهلوانا، يستطيع أن يدلل على أي شيء، وعلى الشيء ونقيضه! هل الكتاب بالفعل لضرار بن عمرو الغطفاني (مولاهم) الكوفي، الذي ولد في ثلاثينات القرن الثاني، ومات في العقد الثاني من القرن الثالث؟ إن الشذرات التي نملكها لضرار من خارج هذا الكتاب، لا تتناقض ومضامين الكتاب، بل هناك شبه اقتباسات تظهر في «مقالات الإسلاميين»، وفي «الملل والنحل» منسوبة لضرار. ثم إن ضرار بن عمرو ما كان مهما في القرن الخامس الهجري بحيث يعمد يمني (لا يبدو أنه كان عالما بارزا بسبب كثرة أخطاء النسخ) إلى نسبة كتاب اخترعه هو إليه! إنما الغريب هذا الحديث الكثير الموضوع أو الذي لا يترفع فوق رتبة الأخبار، ومن جانب رجل المفروض أنه كان صاحب مدرسة عقلانية مستقلة في علم الكلام. إنما والحق يقال فإن ضرار يكثر من الاستشهاد بالقرآن، بحيث يمكن القول إن ربع الآيات القرآنية جرى ذكرها خلال الكتاب.

لقد قمت بقراءة النص المليء بالتحريف والأخطاء، ووثقته بالإحالات بقدر الإمكان، كما جمعت في جزء ثان الشذرات الباقية لضرار بن عمرو في كتب علم الكلام الأخرى، وقدمت لذلك بدراسة مستفيضة، وبإثبات للآيات والأحاديث والتسميات والمصطلحات. إنها وثيقة في الكلام المبكر. وصحيح أن أسلوب الكتاب فيه تحرش وتحريش، لكن كل المسائل المثارة في المخطوطة، كانت مثارة بالبصرة أيضا (وربما بالمدينة والشام وخراسان) في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري.