الفجور في الخصومة.. الابتزاز الإعلامي نموذجا

علي بن محمد العشبان

TT

تنظر محاكم المملكة العربية السعودية يوميا آلاف القضايا، وتفصل فيها وفق الشريعة الإسلامية، والنظم المطبقة بها.

ولضمان تحقيق العدالة كفل النظام للمتظلم من حكم المحكمة حق الاعتراض، وعرض القضية على محكمة الاستئناف، ويقدم المتظلم خلال مدة محددة لائحة اعتراضه على الحكم، ويعرض الحكم مع لائحة الاعتراض وكل أوراق القضية على ثلاثة من قضاة الاستئناف أو خمسة - بحسب طبيعة القضية - وقضاة الاستئناف هم أكثر خبرة وأقدم في السلك القضائي. كما تعرض بعض القضايا أيضا على المحكمة العليا وفق تنظيم معين لها، ومنها ما يعاد لناظر أو ناظري القضية لوجود ملاحظات، والأكثر ينتهي بالتصديق واكتساب الحكم القطعي، ومنها ما يُنقض بعد مداولات، ويعاد النظر فيها من جديد، وهي قليلة جدا.. كما أنه متاح أيضا للمتقاضي التظلم من كل ما يظنه تجاوزا في القضية أمام مجلس القضاء الأعلى.. وكل هذا لضمان تحقيق العدالة.

والقاضي يجتهد في ضبط الجلسة، ويبذل وسعه في ضمان عدم تجاوز أي طرف لحدود وإطار موضوع الدعوى، والتزام العدل بين الخصمين من دخولهما إلى خروجهما.

إلا أن بعض الخصوم - وهم قلة - يتجاوزن حدود الأصول المنظمة لعملية التقاضي، وطريقة التظلم والطعن في الإجراءات والأحكام القضائية، بل ويتجاوز بعضهم حدود الخصومة، ويخرج من إطارها، ويسيء الأدب مع الخصم، ويمارس أنوعا من الاستفزاز والابتزاز، ناهيك بسلوك سبل أخرى أقرب وصف لها هو الفجور في الخصومة، وكل تجاوز لحدود الخصومة وإطارها يسمى فجورا. فتجد من يترك المرافعة ليوجه السب والشتم والانتقاص إلى خصمه في مجلس القضاء، ويشتط في الانتقام والسعي في إهانة الطرف الآخر، وتحطيمه نفسيا، ومنهم من يسعى إلى الاستعلاء على خصمه. وكان لزاما على القاضي أن يكبح جماح أي تصرف يخل بالمرافعة، أو يجعلها تتجاوز حدود موضوعها، أو تخل بميزان العدل بين الطرفين.

ومن الخصوم من يتعقل بعد ساعة طيش، ومنهم من يتجاوز ذلك إلى النَّيل من شخص القاضي، ومنهم من يتطاول على الجهاز القضائي والقضاة برمتهم بقدر ما وقع في نفسه من استعلاء أو جهل أو حمق.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ».

والمعنى أنه إذا خاصم أحدا فعل كل السبل غير المشروعة ليصل إلى ما يصبو إليه.

إن الفجور في الخصومة سوء أدب وتعد وطيش. قال تعالى: «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى».

ومع تطور وسائل الإعلام والاتصال وتنوعها وانتشارها برز نوع آخر من أنواع الفجور في الخصومة، وهو استغلال هذه المنابر لشحن المجتمع، أو حشد الرأي العام وتوجيهه من خلال خصم لتشكيل ضغط على باقي الخصوم، كي يتوجسوا منه خيفة فيحجموا عن مواصلة مقاضاته، أو لتصوير القضية في ذهن المتلقي بصورة مغايرة للواقع، أو ليصبغها بما ينسجم مع موقفه في الخصومة أمام القضاء، أو ليوجد ضغطا على القضاء والقضاة، ويؤثر في سير العدالة ويربكها، وهذا يرسم صورة حديثة من صور الفجور في الخصومة قد نسميها «الابتزاز الإعلامي».

لذا كان من أسس العدالة منع التعرض للقضايا المنظورة أمام القضاء في وسائل الإعلام، وقد صدر إلى الجهات المختصة ما يؤكد هذا المبدأ.

وقدر لي عبر عدة سنوات أن أسبر بعض المقالات والتصريحات واللقاءات والبرامج التي تتناول القضاء والقضاة، أو تتعرض لقضايا منظورة أمام القضاء، ووجدت بعضها تناول المواضيع بموضوعية وحياد، تتمثل في احترام القضاء والقضاة والنزاهة والاستقلالية، ولم تمثل طرفا في خصومة.

وفي المقابل وجدت أن بعضهم لا يعدو أن يكون خصما أو متحدثا بلسانه أو محاميا عن خصم وقابض ثمن مادي أو ثمن معنوي من خلال الترافع المجاني ثم يشهر ذلك أمام الملأ، وبعضهم يظهر بمظهر الناقد والموضوعي، ويقوم باستغلال هذه المنابر استغلالا بشعا يظهر معه للناس أنه مجرد محايد أو مراقب وصاحب غيرة على الدين والوطن، وما هو في الحقيقة إلا خصم في قضية أمام القضاء، ويحاول اختطاف الرأي العام واستغفاله وتأليبه ليجعله في صفه.

ولا أشك أن هذا من الفجور في الخصومة. وإن كنت أجزم - ولله الحمد - أن مثل هذا الشغب لا يمكن أن يؤثر في سير العدالة، ولا يوليه القضاة أي اهتمام أثناء سير الدعوى، وليس قضاؤنا في المملكة العربية السعودية بالذي تهزه كلمة هنا أو هناك.. إلا أنني أعجز عن تصور موقف الخصم الآخر في القضية عندما يجد خصمه يملأ وسائل الإعلام، ويحاول جرها لتكون ردءا له في خصومته، ويستغلها لتعزيز مواقفه أو لتحسين صورته أمام الرأي العام، ويشغب على القضاة والقضاء، ويحاول تمرير وتبرير مواقفه على القراء والمشاهدين، ولا يؤخذ على يديه! وإني لأربأ بوسائل الإعلام التي تحظى بالمهنية والتقدير أن ترضى بجرها إلى مثل هذا، ومن الحصافة أن تكون أكبر من أن تُستدرج لهذا المنزلق، كما يجب عليها - إن كانت تلتزم بأصول المهنية - أن تنأى بنفسها عن مثل ذلك. وأطلب من القائمين على وسائل الإعلام والقراء والمشاهدين أن يتصورا أنفسهم في خصومة قضائية أمام خصم يستغل هذه المنابر الإعلامية بطريقة في ظاهرها التلبس بالموضوعية والحياد والنقد البناء والغيرة على الدين والوطن، بينما باطنها لصالح خصومته وتمرير مواقفه ومصالحه الشخصية.

وقد سمى الله في كتابه الكريم هذا النوع من الفجور في الخصومة لددا، فقال تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ».

وعَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إلى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِم».

* القاضي في المحكمة العامة بالرياض.