أزمة العقل المسلم بين الأصالة والمعاصرة

عيسى الغيث

TT

كما أن هناك مشكلات واقعية في العقل المسلم بين النظرية والتطبيق، بحيث تتجلى الكثير من الآراء المكتوبة والمنطوقة في غالب الأحيان بمستوى عال من المنطقية، ولكنها تنزوي عند تطبيقها الميداني، فكذلك تظهر أزمة العقل المسلم عندما يقف متذبذبا أمام القدرة على التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وفي هذا العديد من الدراسات والبحوث المتخصصة، ومن خبراء في الشريعة وفقهاء في الواقع، ومنهم أ. د. عبد الحميد أبو سليمان الذي أصدر كتابه «أزمة العقل المسلم» ضمن منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

وفي نظري أن لدينا طرفين ووسطا في الموقف من العقل، والطرفان يمثلان نوعا من الأزمة ذاتها، حيث نجد طرفا يمجد العقل على حساب النقل، والطرف المقابل يتجاوز العقل بشكل متكلف ومناقض له عبر عداء مستغرب معه، في حين أن العقل أحد شرطي التكليف الشرعي، فغابت الوسطية في هذه المتاهات، حتى كادت عند البعض تكون مسبة لأصحابها وتهمة على الخصوم، مع أن إمامنا شيخ الإسلام ابن تيمية ناصر الوسطية بكتابه الكبير «درء تعارض العقل والنقل»، ولذا أصبح الجامع بينهما في غربة عند الكثير من المسارات الدعوية في التيار الإسلامي.

ومن أظهر أزمات العقول ما رأيناه في طريقة التعامل مع المستجدات الحياتية، والانحراف المقاصدي في التعامل معها، بعد أن كنا واثقين من القدرات الفكرية للمتصدرين في الساحة الدعوية، حتى تفاجأنا بتصرفات أكدت لنا أن القيادة الفكرية غير مستوفية لشرط عقلها الذي تمارس فيه مسارها، وتعظم المشكلة حينما يدفع ثمن هذه السلبيات عموم المجتمع، سواء بأفعال وأقوال كان يجب ألا تتم، أو بسكوت وتوار كان يجب ألا يحصل، فالسياسة الشرعية شرط كبير لمن تولى الترشيد، حتى لا يضل ويضلل الناس عن الطريق المستقيم.

وفي بلادنا العربية من المحيط إلى الخليج الكثير من الحوادث التي كشفت مستوى هذا العقل المسلم، وأنه يعيش أزمة كبرى، وحين تكون هذه الأعراض متلبسة من قبل العموم والعوام، فليس ثمة كبير مشكلة، ولكن حينما يبتلى بها بعض الخواص من المتعلمين والمفكرين والمثقفين الذين بنت الأمة العربية والإسلامية عليهم الآمال الكبار بأن يكونوا الأدلة نحو الخلاص وبكل ثقة وإخلاص، فتحصل حينها الرزية، وتكبر فيها البلية، لأنهم المفترض فيهم القدرة على تطبيق تلك الشعارات الرنانة، كقولنا بأن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ثم لا نحقق مناطاتها عند أول اختبار في الميدان الحياتي، وبدلا من أن نعيد القصور والتقصير إلى أنفسنا، إذا بنا نحمل ثوابتنا وزر نفوسنا، ناسين أو متناسين قول الله تعالى «قل هو من عند أنفسكم»، وقوله تعالى «اليوم أكملت لكم دينكم».

ولدينا في العالم الإسلامي نموذجان ناجحان مع ما فيهما من خلاف، وهما تجربة تركيا وماليزيا، في مقابل أننا لم نجد تجربة ناجحة بشكل واسع في بلادنا العربية، مع أن العرب يعيشون في أفضل جغرافيا العالم، ولديهم أعز تاريخ، وبين أيديهم أكثر الثروات العالمية، وفيهم الكوادر البشرية اللازمة، ومع ذلك لم تتحقق النجاحات المفترضة لهذه المقومات الموجودة، مما يعني أزمة حقيقية لعقولنا العربية والإسلامية، ولو اعترفنا ابتداء بالواقع الذاتي لعقولنا وأفكارنا فضلا عن تصرفاتنا وتجاوزاتنا لأيقنا بأننا في أول الطريق الصحيح، ولكن حينما نكابر الواقع ونناكف الوقائع؛ فهذا يعني بأنه لا أمل قريبا في النمو والتطور.

وعلى ذلك فالحل في الأصالة الإسلامية المعاصرة لنهضة مجتمعاتنا في جميع أمورها، بعيدا عن الحل الأجنبي الدخيل أو الحل التقليدي التاريخي، فلكل يوم أنفاسه، ولكل عهد رجاله، ولكل زمن أدواته، والمنطلق هو من الأصالة الإسلامية المعاصرة، بعيدا عن الفصام بين الكوادر الفكرية والقيادات السياسية، ولذا فأزمتنا كامنة في الأفكار لا في العقائد، حيث عزلتنا الفكرية التي أصبحت تربة للجمود والتقليد، بعيدا عن تحقيق الأوامر القرآنية بالتفكر والتدبر، وحتى في أنفسنا نتبصر، فكيف بغيرنا مما تقوم عليه المصالح العامة.

وإذا أيقنا بأن المنهج التقليدي للفكر الإسلامي هو السبب الرئيسي لكثير من مشكلاتنا، فإننا حينئذ سندرك ولو متأخرين بأننا السبب في التخلف، حيث وأدنا العلوم الاجتماعية، وحملنا تراثنا أوزار كسلنا، فبتنا نقتات بتاريخنا دون أن ندخر تاريخنا لأولادنا، وجعلنا من ثروة الأمس زادا لمسيرتنا وعبرة لمستقبلنا، لكن دون أن نثري واقعنا ونزود مسيرتنا بجهودنا نحن لا بجهود من سبقنا، حتى لا نكون عالة على من قبلنا، ولا نسحب من أرصدة غيرنا، وكما قيل: ليس الفتى من قال كان أبي، إن الفتى من قال هاأنذا، وكما تقوى دنيانا بديننا، فكذلك يقوى ديننا بقوة دنيانا.

ولتحقيق هذه الآمال، لا بد من تحديد إطار منهجية الفكر الإسلامي، وبيان معارفه التي ننهل منها، وهي مصادر الفكر والمنهجية الإسلامية، عبر الثلاث: الوحي والعقل والكون، مع تمسكنا بالمنطلقات الأساسية للمنهجية الإسلامية والفكر الإسلامي، مع سلوكنا المفاهيم الأساسية لهذه المنهجية، وعبر خصائصها المبنية على ركني شمولية المجال وشمولية الوسيلة، وبهما تتحقق متطلبات بناء علوم الحضارة الإسلامية، عبر تصنيف النصوص الإسلامية، وشمولية الرؤية الحضارية، مع مقدمات العلوم الاجتماعية التي بواسطتها تتحضر المجتمعات بالمنهج الإسلامي عبر علوم التربية والسياسة والتقنية.

ولا بد لعلاج الأزمة من أن نستحضر دائما قضية العقل المسلم وما لحق به من أدواء سواء بمنهجيته أو بأسلوب أدائه، وبسببه انحسر الدور الحضاري للأمة وانهار الكثير من بنيانها وتدهورت مؤسساتها، مما أوجب فتح الباب للحوار بين قادة الفكر والرأي العرب والمسلمين في كيفية الخروج من دوامة الحلول التقليدية من جهة والتغريبية من جهة أخرى، والتي تكررت على مدى القرون المتأخرة من تاريخنا العربي والإسلامي، وحسبنا أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ولا حل إلا أن يتجاوز العقل المسلم أزمته عبر جوهر مشكلته، وذلك بواسطة شمول الإسلام المنهجي والمعرفة الدينية والدنيوية.

وحينما نسترد هويتنا ومقدرتنا على التفكير المبدع، وننشط طاقاتنا، ونفعل أدوارنا، ونتمكن من إعادة بناء منهجنا العلمي والتربوي، دون مفاصلة بين النظرية والتطبيق، أو فصام بين القاعدين والنافرين، وممتثلين الأنظمة الاجتماعية المحققة للحاجات والقدرات البشرية، مع تصحيح المسار للحضارة الإنسانية المعاصرة، مع وضع حد للتخبطات التي نقع فيها أمام العالم، من أوهام كنظرية المؤامرة وفوبيا التغريب والعداء الدائم والكره المستطير للغير، مع إدراكنا للمخاطر الحقيقية التي تهدد وجودنا الإنساني بكرامة البشرية، وغفلتنا عن دورنا الحضاري في عمارة الأرض، لئلا يقع الفناء والدمار.

وإنني على يقين بأنه إذا اتضح هذا الواقع برؤية سليمة لمفكري الأمة وعلمائها ومثقفيها، وصحت منهم الإرادة العازمة على تبصير الأمة نحو الجادة، فحينئذ تصبح الجذوة سارية في الهشيم ليغمر الفجر الحقول كعجلات المصانع حين تنتج السلع على نحو مخرجاتها التاريخية الفاخرة، مستنيرين بدروس التاريخ، سائرين نحو الجادة، لنندفع بطاقاتنا كالسيل الهادر، نشق طريق العزة والكرامة بكل أداء متميز وإنجاز كبير ليس معهودا من سابق قدرتنا وحركتنا وأدائنا، فتتطور المسيرة لتتغير حالنا ويصلح مآلنا، متطاولا على العاجز والضال، متلاشيا أمام أولي العزم والإرادة.

وأسأل الله أن يهب الجميع الحكمة والصواب، وأن يعيننا على الخروج من أنقاض هذا الركام الذي ترزح تحت أعبائه الأمة والإنسانية، وأن يجعلنا من العالمين العاملين المخلصين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

* كاتب سعودي