القيم الروحية لفريضة الزكاة

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

يشير القرآن الكريم إلى أثر الزكاة في طهارة النفوس وتقواها؛ فضلا عن تزكية الأرواح، حين يتوجه المولى، عز وجل، مخاطبا رسوله الكريم بالأمر: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها». ونتيجة لذلك؛ نجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يمزج ما بين الصدقة المادية ونظيرتها المعنوية - ليتم بذلك الجمع بين العمل الحسي والشعور الخلقي/الروحي - حين يقول في حديثه الشريف: «وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الأذى عن الطريق صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة».

وفي كل الأحوال، لقد كان أتقياء الأمة أشد الناس حرصا على التحقق بأداء هذه الفريضة الرائعة، وبنفس الذائقة الروحية التي كانوا يؤدون بها شعائر الإسلام المختلفة. فالزكاة إحدى فرائض الإسلام الخمس، ولا وجه للإعراض عنها أو الاعتراض عليها بحال من الأحوال، شأنها في ذلك شأن كل من: الشهادتين، والصلاة، والصيام، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، ولعل ذلك هو ما دفع أبا بكر الصديق لأن يعلن في شأن مقاتلة مانعي الزكاة من المرتدين: «والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعه». أما متصوفة الإسلام؛ فلم يقفوا بطبيعة الحال عند حدود المعنى الظاهر للزكاة، وإنما جمعوا بينه وبين المعنى الباطن لها، ليتحقق بذلك كمال تلك الفريضة المهمة، وهو ما عبر عنه تاج العارفين الجنيد البغدادي بالقول: «إنها في حساب الفقهاء هي نسبة كذا في كذا، أما في حساب الصوفية فالكل ملك لله».

الزكاة بمفهومها الباطن تعني إذن شكر النعمة من جنس النعمة، وإذا كانت بمعناها الظاهر قدرا محدودا من المال فإنها بالمعنى الباطن لا حد لها على الإطلاق اتساقا مع نعم المولى عز وجل اللا محدودة بطبيعة الحال: «وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها»، «وما بكم من نعمة فمن الله».

والزكاة بمعناها الذوقي لا تقتصر على المال فحسب؛ وإنما تتسع لتشمل زكاة البدن والقلب معا. ذلك أن أول ما ينبغي على العبد معرفته في شأن الزكاة هو أن يعلم الحكمة أصلا من أدائها، من حيث هي إخراج نصيب من ماله للفقراء والمحرومين، لأن الله تعالى قد جعل لهم حقوقا في أموال الأغنياء هي مفروضة عليهم، وليس لأصحاب الأموال فيها شيء، فالمال في حقيقته هو مال الله، ولو كان مال الزكاة ملكا لصاحبه لما وقع الوعيد لمانعها، كما جاء في قوله تعالى: «والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم».

وتبعا لذلك؛ فإن من لم يؤد الزكاة يكن قد أحب ماله حتى مال به واستغرقته محبته فصار ذليلا لما أحبه ولزمته عبوديته. وبموازاة ذلك؛ تحصل زكاة البدن بأن يصرفه صاحبه فيما أمر الله به، وبأن يحفظ العبد جوارحه، بحيث تكون مستغرقة في خدمة الله وطاعته ومشغولة بعبادته، وبحيث لا تميل إلى اللهو أو اللعب، فإذا كانت كذلك فقد حقق صاحبها زكاتها أو طهارتها.

هذا ويفصل حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» جملة الآداب الباطنة المصاحبة لفريضة الزكاة في ثمانية آداب: الأول أن يفهم صاحب الزكاة وجوبها ولم كانت كذلك مع أنها في الأصل تصرف مالي وليست من عبادة الأبدان. وهذا يفضي به إلى معرفة ثلاثة أمور: الأول أن التلفظ بالشهادتين إلزام بالتوحيد وشهادة بإفراد المعبود وهو مما يوجب عليه تمام الوفاء والقيام به، وإنما يحصل هذا الأمر (التوحيد) بألا يبقى في قلبه سوى الواحد، فالمحبة في أصلها لا تقبل الشراكة، كما أن التوحيد باللسان فقط قليل الجدوى. فالتوحيد بهذا المعنى الذوقي يفيد التطهر وهو تحقيق للزكاة أيضا بوصفها طهارة.

وأما المعنى الثاني فلا يخرج هو الآخر عن معنى التطهر من البخل مصداقا لقوله تعالى: «ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون». أما المعنى الثالث والأخير فهو شكر النعمة لأن لله على عبده نعمة في نفسه، ونعمة في ماله كذلك. وأما ثاني الآداب الباطنة، فيتجلى وقت أدائها، ومن الأدب في الدين أن يعجل المرء بها عن وقت وجوبها، ففي هذا إظهار للرغبة في الامتثال لأمر الله، وفي إيصال السرور إلى قلوب الفقراء، ومبادرة لعوائق الزمان أن تعوقه عن فعل الخيرات.

ثالث تلك الآداب، يتمثل في الإسرار بها، لأن في تحقيقها بهذه الكيفية ابتعادا بها عن الرياء والسمعة والعجب. أما رابعها، فأن يظهر دفعها، حيث يعلم أن في إظهارها ترغيبا للناس في الاقتداء به.

خامس تلك الآداب، ألا يفسد صاحب الزكاة صدقته بعد دفعها بالمن والأذى لقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى». وسادسها أن يستصغر العطية لأنه إن استعظمها حصل له الإعجاب بها، والعجب من المهلكات، فضلا عن أنه محبط للأعمال.

أما سابعها، فأن ينتقي من ماله أجود ما فيه وأحبه إليه، مصداقا لقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون». وأخيرا أن يطلب لصدقته من تزكوا به الصدقة من دون أن يكتفي أن يكون من عموم الأصناف الثمانية، لأن في عمومهم خصوصَ صفات، فليراع خصوص تلك الصفات. وبذلك تكون الزكاة تطهرا كاملا على مستوى كل من: المال، والروح، والبدن.

* كاتب مصري